ثقافة

ربع قرن من العناية الملكية بالتراث الثقافي اللامادي، فن الملحون أنموذجا

إعداد : الدكتور منير البصكري الفيلالي / أسفي

تحل هذه الأيام الذكرى الفضية لجلوس صاحب الجلالة الملك سيدي محمد السادس حفظه الله ونصره على عرش أسلافه الأكرمين . وهي ذكرى يخلد فيها الشعب المغربي ولاءه وإخلاصه وحبه لملكه ، اعترافا بفضائله ومكارمه على شعبه طيلة خمسة وعشرين سنة من الإنجازات القيمة على مختلف المستويات اقتصادية واجتماعية وثقافية ، مما جعل المغرب قلعة شامخة تعج بالمفاخر والأعمال الجليلة والمنجزات والخطوات الجبارة التي ما فتئ جلالة الملك يوليها كامل عنايته بقلب مفتوح وإرادة متبصرة وبما أوتي من خبرة وبعد نظر وسداد رأي ..
 من بين اهتمامات صاحب الجلالة في المجال الثقافي بالخصوص ، منذ اعتلائه عرش أسلافه المنعمين ، عنايته بالتراث الثقافي الشعبي طيلة ربع قرن ، آخرها رسالته السامية إلى المشاركين في أشغال الدورة السابعة عشرة للجنة الحكومية لصون التراث الثقافي اللامادي التابعة لليونيسكو حيث نجده يقول : ” إن المملكة المغربية ، التزاما منها بالنهوض بالتراث الثقافي اللامادي تقوم بدور هام في حمايته ، سواء عبر تعزيز ترسانتها القانونية في هذا المجال ، والمشاركة الفعالة في تنزيل مضامين اتفاقية ‌ 2003 لصون التراث الثقافي اللامادي ، التي ساهمت في صياغتها ، أو من خلال العمل على إعداد قوائم جرد التراث ، وجعلها إرثا إنسانيا حيا ، انسجاما مع روح هذه الاتفاقية .. ” وهذا يظهر مدى التزام جلالته بالنهوض بالتراث الثقافي اللامادي من خلال دوره الكبير في حماية هذا التراث ، داعيا إلى ” البحث عن أنجع السبل لتربية الناشئة على أهمية تراثنا والاهتمام به كإرث بشري غني بروافده الثقافية المتعددة ، وروابطه التاريخية الضاربـة فـي عمـق التاريخ ..” ومن ثمة ، شدد جلالته على ضرورة رقمنة التراث الثقافي الغني والمتعدد الأبعاد وكل مكونات التراث اللامادي ، انسجاما مع تطور العصر وما يعرفه العالم اليوم من تحديات رقمية وتكنولوجية ، معلنا حفظه الله على إحداث مركز وطني للتراث الثقافي اللامادي ، مهمته تثمين المكتسبات المحققة في هذا المجال وذلك في سياق العناية الخاصة التي ما فتئ ملكنا المنصور بالله يوليها للتراث الثقافي .. مذكرا بما يعرفه المغرب من تنظيم لغير قليل من الندوات العلمية والملتقيات الدولية والتظاهرات الثقافية من أجل الصيانة المستمرة لتراثنا الثقافي اللامادي الذي يعتبر رمزا للهوية المغربية وعنصرا أساسيا في الذاكرة ، وحاملا للمبادئ والقيم المشتركة ، وقابلا للنقل إلى الأجيال القادمة .
في هذا السياق ، نلاحظ انخراط جلالة الملك الكلي في العناية والاهتمام بتراثنا اللامادي خاصة فن الملحون الذي تم إدراجه في القائمة التمثيلية للتراث الثقافي غير المادي للبشرية وهو ما كان يسعى إليه المغاربة قاطبة ، وفي طليعتهم جلالة الملك سيدي محمد السادس حفظه الله من خلال الرسالة الملكية السامية الموجهة إلى أكاديمية المملكة المغربية بعد تفضل جلالته باستلام ديوان الشيخ سيدي قدور العلمي . يقول جلالته : ” وقد سرنا أن تتولى الأكاديمية إحياء تراث المغرب بكل أنواعه وموضوعاته ، وأن يقوم بذلك صفوة من الأساتذة المغاربة المختصين في الموضوع ، وذلك في التزام بالمنهج العلمي المأخوذ به في نشر وإصدار كل صنف من أصناف التراث الوطني على الوجه الأمثل ، كما ابتهجنا باهتمام الأكاديمية بنشر شعر الملحون الذي كان للشعراء والزجالين المغاربة باع طويل فيه ، على مدى العصور الأخيرة تعبيرا عن الشخصية المغربية ، والتغني بما يختلج في نفوس المغاربة من مشاعر دينية وطنية وعاطفية . فكان لهذا الملحون في تعبيره المباشر ولغته الشعبية دوره الأدبي والحضاري في تشخيص الوحدة والتعلق بثوابت الأمة ومقدساتها .
إن هذه العناية التي حظي بها فن الملحون من طرف جلالة الملك ، تؤكد بلا هوادة ، أصالة هذا الفن الأدبي الجميل ، لأنه تراث له أهميته ووزنه ، وهو جزء من التراث اللامادي الذي ما فتئ جلالة الملك محمد السادس يلفت الانتباه إلى ضرورة الاهتمام به وصونه بهدف توسيع الاهتمام بهذا الفن الرفيع تحقيقا للأهداف التي خططتها أكاديمية المملكة المغربية بتوجيه وإشراف الدكتور عباس الجراري رحمه الله للنهوض بالملحون ، أي تعريف الناس بماهية هذا التراث الذي يتناول كل القضايا التي ينبغي أن تعرف عنه بدءا من اللغة إلى الأغراض إلى الأشكال والأساليب الفنية ، ثم إلى طرق الإنشاد والأداء .
لذلك ، لا نخفي سرا إن كان تسجيل الملحون تراثا إنسانيا عالميا من طرف منظمة اليونسكو، أن نقر بأن هذا التكريم للملحون كتراث ثقافي للإنسانية ، هو اعتراف بجهود أطراف متعددة في طليعتها الرؤية الملكية السامية في مجال صيانة وحفظ التراث الثقافي المغربي . ومن ثمة ، فإن هذا التكريم للملحون ، هو تعزيز للبعد الحضاري لهذا التراث الوطني . فلا ننسى بأن الإنسان عادة ما يلتصق أكثر بإرثه وماضيه . واليوم ، نحن مطالبون بأن نتجه بقوة إلى دعم وخدمة تراثنا الحضاري بشكل جيد حتى يستطيع الإنسان والمواطن المغربي أن يقترب أكثر تجاه هذا التراث ويرتبط به ، ويفتخر به ، باعتباره كنزاً حضارياً ثميناً سينعكس ـ لا محالة ـ على اهتمام المجتمع بهذا التراث وتعزيز المواطن له وهو إن فعل ، فإن ذلك يدل على وعيه وفهمه ونضجه الوطني ، علما بأن كثيرا من الدول اهتمت بالتراث، باعتباره إرثاً حضارياً ثميناً تفخر به، وانعكاساً طبيعياً للمسيرة الإنسانية، ومرآة للحضارات على مرّ العصور، وذلك عن طريق تعليم النشء على ممارسته واقعاً، وتفاعلاً مع تاريخهم الماضي، واستخلاص الكم الهائل من التراكم المعرفي في التراث الإنساني، بحضارته المتعاقبة المختلفة، وبقائه بكل جوانبه المعبرة الصادقة عن أصالة وعمق وامتداد هذا الشعب الذي أنتجه . لذلك ، فالملحون تراث مشترك بين روافد الثقافة المغربية العربية والأمازيغية والحسانية والأندلسية ، تمتزج فيه اللهجة العامية الراقية ، إن صح التعبير ، باللغة العربية الفصحى بشعرها ونثرها ، ذلك أن لغته تتميز بكل بلاغة العربية من استعارة وتشبيه وجناس وتضمين ولزوميات ، وكل ضروب البيان والبديع ، يدرك قيمته الدارسون والباحثون والمتذوقون له . فهو يتميز عن سائر الأنواع الأدبية ، مدرسية كانت أو شعبية ، بمداه الرحب وانسيابيته وقدرته على تصوير بواعث الفعل البشري وردود الفعل وجذور الإرادة الإنسانية في سعيه إلى فتح آفاق جديدة واستشراف معالم المستقبل . وهذا أمر علينا ألا نغفله ، لأنه يمثل الأرضية الحقيقية الفعلية في وجدان الناس ، ومنه يمكننا الولوج إلى فن الملحون بغية استجلاء مضامينه الغنية ، وتذوق معانيه المعبرة ، والكشف عن مظاهره الفنية والجمالية . 
 فلا غرو أن تكون العناية الملكية السامية بالفنون التراثية ، وفي مقدمتها فن الملحون كمكون مرجعي من مكونات الهوية الثقافية المغربية العريقة .. عنوانا لأصالة هذا الفن الذي يحتوي نبض حياة الشعب المغربي ، يدون تاريخه ومختلف مسارات حياته ، كما يعكس قيمه الدينية والاجتماعية والثقافية ، مما بوأه مكانة رفيعة في النسيج الأدبي المغربي . فهو رافد أساسي من روافد الذاكرة الفنية المغربية منذ أكثر من ستة قرون ، حيث ظهر منذ العهد الموحدي خلال القرن السابع الهجري ، الثالث عشر الميلادي كتجربة إبداعية شعبية ارتبط بالحياة اليومية للإنسان المغربي ، ومن ثمة ، كانت له هذه المكانة التي حظي بها في الثقافة المغربية ، حيث يعد أحد مكوناتها الأساسية التي ساهمت في تنمية وصقل الذوق العام، خاصة أنه مادة شعرية ترسخت في الوجدان الجماعي، من خلال استثمار قصائده في مجال الغناء والإنشاد والطرب للتعبير عن الشواغل الذاتية والروحية والاجتماعية والفكرية والعقدية ، في قالب فني إبداعي يؤسس لرؤية جمالية ويبرز مهارة الإنسان الشعبي في مجال الإبداع والفن، ما جعل من الشعر الملحون لونا من ألوان الإبداع الشعبي، الذي تضمن كغيره من الفنون موضوعات مختلفة وأغراض متعددة كالغزل والوصف والمدح والرثاء والحكمة وغيرها .
 لذلك ، نسجل أن الملحون ظل ديوان المغاربة ، ارتبط حميميا بالإنسان البسيط ولهجته القريبة من الفصحى ليكون خير تعبير عما يخالج هذا الإنسان في أعماقه .. ومن هذا المنطلق ، جاءت دعوة جلالة الملك سيدي محمد السادس نصره الله وأيده إلى تعزيز حماية التراث الثقافي للامادي، وتبادل التجارب والأفكار في سبيل صونه وحمايته .

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

عشرين − 8 =

زر الذهاب إلى الأعلى
MCG24

مجانى
عرض