ثقافة

“إمارة المومنين” عنوانُ دولةٍ مدنية ذات مرجعية إسلامية- الجزء الثاني

محمد التهامي الحراق

 

جاء في  الفصـل 41  من دستور 2011:

 ” الملك، أمير المؤمنين وحامي حمى الملة والدين، والضامن لحرية ممارسة الشؤون الدينية. يرأس الملك، أمير المؤمنين، المجلس العلمي الأعلى، الذي يتولى دراسة القضايا التي يعرضها عليه. ويعتبر المجلس الجهة الوحيدة المؤهلة لإصدار الفتاوى المعتمدة رسميا، بشأن المسائل المحالة عليه، استنادا إلى مبادئ وأحكام الدين الإسلامي الحنيف، ومقاصده السمحة. تحدد اختصاصات المجلس وتأليفه وكيفيات سيره بظهيريمارس الملك الصلاحيات الدينية المتعلقة بإمارة المؤمنين، والمخولة له حصريا، بمقتضى هذا الفصل، بواسطة ظهائر“.

وفي الفصل 46 :

    “شخص الملك لا تنتهك حرمته، وللملك واجب التوقير والاحترام“.

   بتأمل هذين الفصلين، نجدنا إزاء عمق كبير في الجمع بين المسؤولية والشرعية الدينيتين للإمامة العظمى، وبين المسؤولية والشرعية الاجتماعيتين للملك المواطِن. وفي هذا تحقيق لفرادة في الشرعية الجامعة بين السماء والأرض، بين الدين والمجتمع؛ شرعيةٍ لا تُقصي الدين ولا تُلغيه من الاعتبار كما هو شأن الأنظمة الانغلاقية اللائكية، ولا تجعله مستنَدا لتفويض إلهي قروسطي كما هو شأن الأنظمة الانغلاقية التيوقراطية. إن البيعةَ في نظام إمارة المومنين هي تعاقدٌ اجتماعي بين حاكِم ومحكوم تقوم على حقوق وواجبات يلتزم بها التزاما كلُّ طرفٍ من أطراف هذا التعاقد، وهذا ما يحرر نظام إمارة المومنين من كل نزعة استبدادية في الأرض باسم السماء، مثلما أن نظام البيعة موصول من جهة ثانية بالشرعية الدينية التي يكفلها الانتسابُ لآل البيت، ووظيفةُ حماية الملة والدين التي يضطلع بها أمير المومنين، مما يحرر الاختيارَ المغربي من تطرف اللائكية الذي يقصي كل دور للدين في الحياة العامة والمجتمع كما قلنا، وهو الإلغاء الذي يتعرض اليوم للنقد والمراجعة داخل البيئات الغربية نفسها.  الأمر الذي كان قد نبَّه عليه أمير المومنين في خطابهِ أثناء زيارة البابا فرنسيس إلى المغرب في 30-03-2019، حين أكد على أهمية الدين ودوره في الإسهام في حلِّ جملة من القضايا العالمية والكونية مثل التربية والفقر والهجرة والبيئةأي حينَ أكَّدَ أن الدين ينبغي استحضارُه في السياق المعاصر بما هو جزءٌ من الحلِّ لا بما هو جزء من المشكلة؛ بخلاف الصورة التي يقدمهُ بها النظامان التيوقراطي واللائكي على السواء.

    ولهذا حين يقول أمير المومنين في الخطاب المذكور: “واليوم، فإني بصفتي أمير المؤمنين، أدعو إلى إيلاء الدين مجددا المكانة التي يستحقها؛ فإنه يدعو إلى الخروج من التطرفين اللائكي والتيوقراطي، والذهاب إلى تمثل النموذج المغربي الوسطي والمعتدل الذي وصفه جلالته بـالفكر الديني المتنور، ضمن خطابه في حفل تنصيبالمجلس الأعلى لمؤسسة محمد السادس للعلماء الأفارقةبجامع القرويين بفاس، بتاريخ 14 يونيو 2016. هذا النموذج الذي يقترح على الإنسانية الحديثة حَلًّا لإعادة ترتيب العلاقة بين الدين والسياسة؛ بحيث يخرج من قيدِ ثنائية الدولة الدينية أو الدولة اللائكية إلىدولة مدنية ذات مرجعية إسلامية؛ كما جاء فيجـواب الـمجلـس العـلمـي الأعلى عـن اسـتـفـتاء أمـير الـمؤمـنين حول المصالح المرسلةالصادرة بتاريخ 17 رمضان 1426ه الموافق 21 أكتوبر 2005.

     وبهذا الاعتبار، لا يمثل علماءُ الأمة في هذا المجلس أيَّ وصاية كهنوتية على عقول وأرواحِ الناس كما حصل في كنائسِ القرون الوسطى، وإنما يمثلون جهةالخبرة القادرة على الدلالة على مراد الشرع، نقرأ في هذا الجواب أيضا: “ومهمة العلماء في هذه الدولة هي أن يمثلوا جهة الخبرة القادرة على الدلالة على مراد الشرع، وهم يؤدون عملهم من موقع تأهلهم العلمي وقدرتهم على الكشف عن الحكم الشرعي، لا من موقع تفرُّدِهم بخصوصية معنوية تمنحهم سلطةً دينية لا تُرَاجع. وأقوالهم معرَّضَة للانتقادِ وللنقض إن أعوزها الدليل الشرعي أو انهارت أمام دليل شرعي أقوى، وقد قال الباقلاني: “إن المسلمين لا يحكمهم معصوم ولا عالِم بالغيب، فمن ثم لم تكن الدولة الإسلامية دولةً تيوقراطية ولا دولةَ تفويض إلهي، وإنما كانت دولةً مدنية ذات مرجعيةٍ إسلامية لا غير“.

    من هذا المنظور المتميِّز، الذي تبيِّنُه النصوصُ المرجعية الناظمة لنظام الإمامة في المغرب، وكذا الممارسةُ الرشيدة والسديدة لإمارة المومنين ضمن هذا الأفق، يقدم المغرب أنموذجًا متفرِّدا في السياق الحديث لإعادة ترتيب العلاقة بين الدين والسياسة، يقول الأستاذ أحمد التوفيق في كلمة له أثناء حفل استقبال أمير المومنين للحبر الأعظم فرنسيس بمعهد محمد السادس لتكوين الأئمة المرشدين والمرشدات بتاريخ 30-03-2019: في سياق إمارة المؤمنين، تجد حلَّها كثيرٌ من الإشكاليات التي قد يشكو منها تدبيرُ الدين في جهات أخرى، ومنها إشكاليةُ حضور الدين في الدولة، وحمايته، وعلاقته بالسياسة، وبالحركات المسماة بالإسلامية، وبتطبيق الشريعة، وبالتيارات المتشددة، وبالحريات، وبالقيم الكونية، وبالتعليم الديني، وأخيرا مسألة العلاقة بالعلماء؛ بمعنى أن إمارة المومنين، بهذا المنظور، تقدِّم مقترحا متفردا لإعادةِ ترتيب العلاقة بين الدين والسياسة في السياق الحديث، بما يخرجنا من ضيق ثنائيات وإميات: إما الدولة الدينية أو الدولة اللائكية؛ دولة شرعية السماء والغيب، أو دولة شرعية الأرض والشهادة؛ بحيث يتم استحضار الشرعية الدينية داعمةً ومدعومة بالشرعية الاجتماعية؛ وهكذا تتقدمان بما هما شرعيتان متكاملتان متضافرتان لا متناقضتان متنافرتان؛ بحيث نستفيد من مزايا النظام الديموقراطي الحديث دون الوقوع في مطبات الـتفريطِ في مزايا الأثر التوحيدي والروحي والأخلاقي والإنساني لحضور الدين وقيمه النبيلة في المجتمع والتاريخ.

   طبعا، مثل هذا المنظور يقتضي، من ناحية أخرى، اعتمادَ التجديد المتواصل لأمر الدين بما يلائِم صيرورة المجتمع وتغير التاريخ، وهو ما تضطلع به بجرأة ومسؤولية وتنويرية مؤسسةُ إمارة المومنين، ذاك ما أوضحه بعمق وزير الأوقاف والشؤون الإسلامية في درسه الافتتاحي للدروس الحسنية الرمضانية الأخيرة (1445ه)، كما يدل على ذلك عنوانه:  تجديد الدين في نظام أمير المؤمنين“.

    وبإجمال، فإن القصد الرئيس من هذا المقال هو بيان خصوصية التجربة المغربية في ترتيب العلاقة بين الدين والسياسة، بما يجعلها تفيد من مكتسبات الدولة الحديثة، ذات المعالمالعَلمانية، لكن في ذات الوقت تحتفظ بخصوصية البعد الروحي والتشريعي والأخلاقي للدولة في المرجعية الإسلامية، وذلك بما يتيح لها تجاوزا عمليا لتطرفالعَلمانيةفي علاقتها بالدين وأبعاده الكونية الروحية والأخلاقية، وكذا تجاوز آفاتِ الدولةالتيوقراطية الدينيةالتي تضفي القداسة على ممارسات واجتهادات بشرية في الحكم والتدبير، وتوقع المجتمع في مطبات لا تقل ضراوة عما توقع فيه العلمانية المتطرفة. إن الأنموذج المغربي يسعى إلى تجاوز النقص في النموذجين اللائكي والديني على السواء، وكذا تجاوزِ أسباب الاستبعاد المتبادَلِ بينهما، ومن ثم صياغة أفق ثالث يقوم علىفكر ديني متنوريحتفي بالدين والإيمان وامتداداتهما في المجال العام على خلاف التطرف اللائكي، ويحتفي بالديموقراطية والعقلانية وحقوق الإنسان والمشاركة في الحكم والتدبير والقبول بشرعية الاختلاف على خلاف التطرف الديني أو الحكم التيوقراطي. ذاك ما تحققه مؤسسة إمارة المومنين، في نظرنا، بما هي عنوان دولة مدنية ذات مرجعية إسلامية.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

11 − سبعة =

زر الذهاب إلى الأعلى
MCG24

مجانى
عرض