
صدى رجالات أسفي في التاريخ – الحلقة 97
إعداد: الدكتور منير البصكري الفيلالي / أسفي
المعلم ابن ابراهيم الخزفي الأصيل
اختصت مدينة أسفي بفن خزفي عريق ومتميز، يكاد يشكل ظاهرة رائعة من تراثها الحضاري والثقافي والفني، الأمر الذي جعل هذا الفن يصل إلى الشهرة الدولية. ذلك أن خزف أسفي انفرد ولا يزال ينفرد برسوم وعلامات لها دلالات رمزية تندرج ضمن نوع خزفي يسمى ” اتبوع ” المستعمل عند الحرفيين الأسفيين الذي يعبر بنفسه عن أنواع الزخرفة التي تتميز بتسلسل عناصرها وانتشارها على سطح القطع الفخارية. ومعلوم أن الخزفي الأسفي قد وضع لعملية زخرفة منتوجاته أنظمة قاعدية موروثة جيلا عن جيل. ومن ثمة، أكسب ابتكاراته الفخارية البسيطة طابعا فنيا يصدر عن خبرته الجمالية وقدرته الإبداعية، حيث استطاع استخدام مواد الطبيعة في أغراض تفوق مكونات المادة نفسها.
وهذا ما جعل الخزف الأسفي يحتل مكانة مرموقة في جل المحافل والمعارض الدولية التي يشارك فيها أشهر خزفيي مدينة أسفي بتحفهم ذات الجودة العالية تقنيا وفنيا.
ومن أبرز أعلام ومعلمي الخزف في أسفي، نذكر المعلم ابن ابراهيم الذي يعد من بين أبرز الحرفيين وأكثرهم احتراما للأصالة ، ذلك أنه حال دون تأثر خزف أسفي بالموجة الغربية .
ولد الفنان أحمد ابن ابراهيم بأسفي عام 1911 .. دفعه عشقه وحبه الكبير لفن الخزف إلى البحث المتواصل في هذا المجال منذ نعومة أظافره. لهذا، يعد الفنان ابن ابراهيم من أبرز خريجي مدرسة الرسم التي أسست بأسفي سنة 1919 على يد الحسن بوجمعة العملي الجزائري الأصل الفرنسي الجنسية ، حيث أصبحت مدرسته تستقطب أعدادا محدودة من التلاميذ ، ينظم عملهم وفق طرق حديثة . فقد كان يطالبهم بإعادة نقش الرسوم التي يدونونها في الدفاتر على القطع الخزفية باستعمال أحبار مختلفة ، وأدوات متنوعة . وهو ما مكن مجموعة من التلاميذ من اكتساب تقنيات هائلة أضفت رونقا حداثيا على خزف أسفي. وإلى جانب ابن ابراهيم نذكر الطيب لمداسني وعبد الرحمن الفلكي وعبد القادر لغريسي وعائلة السرغيني وعائلة الرباطي …
لذلك يعد السي ابن ابراهيم من تلاميذ بوجمعة العملي، اكتسب تجربة قوية في دعك الصلصال .. امتلك أسرار الحرفة الموروثة عن القدامى ، فنجح في إضفاء طابع التحديث على منتوجه عبر تغيير تكوين الطلاء الخزفي وتنويع الديكور .. فعمل على بلورة حلم العديد من الخزفيين ، وذلك عن طريق إضفاء رونق معدني على القطعة الخزفية، منوعا في الألوان (الأحمر والأخضر والأحمر القاني والأزرق الكستنائي الناصع والأصفر) ويظهر الذهبي الفضي والبلاتيني مع استعمال طلاء داخلي مغاير. فعنده علم الكيمياء متصل مع فن الخزف للحيلولة دون تردي هذه الصناعة التقليدية . فالطلاءان (الأزرق والأخضر) وجدا بريقهما القديم ، حيث اتبع النمط الخزفي الصيني في إعداد الطين وجودة السيراميك، وبالتالي، عرف كيف ينعش الأنماط القديمة ويخرجها إلى الوجود من جديد ( كالزير والزيتونة …) إضافة إلى أنه استعمل تقنية Colombin في إعداد الأواني الخزفية ذات الحجم الكبير ، فتوفق في دمج الماضي بالحاضر ، وفي ترسيخ القيم الأصيلة كاعتدال الديكور ووضع الرسومات وتسوية الخطوط وانسجام الألوان . وهكذا ، كان منتوجه الخزفي يعرض في أشهر المعارض العالمية إلى جانب بيكاسو وغيره من الفنانين العمالقة . يقول المرحوم سيدي التهامي الوزاني صاحب كتاب : ” تل الخزف ” ( من المعروف أن الخزفيين من الجيل السابق للجيل المعاصر ، كانوا أكثر تشبثا بأصول فن الخزف ، وأكثر حرصا على تقنياته التقليدية ، فتركوا بصماتهم على هذه الصناعة العريقة وبالتالي ، ظلت ابتكاراتهم تتسم بالأصالة ، لم يعد أي أحد يصنع مثلها اليوم ، حيث كان الخزفي الأسفي يعير أهمية قصوى لعملية التزيين التي تبرز جماليته من خلال انسجام الألوان باعتدالها ونصاعتها وسيطرة الأزهار وعناصر زخرفية أخرى ميتوحاة من تعبيرات الفنون التقليدية والأشكال الهندسية . ) ومن ثمة ، كان السي ابن ابراهيم نقلة نوعية للفخار بمدينة أسفي ، فقد حاول تجديد وتطوير الصناعة الخزفية بإضافته للتسبيقة الطينية المستخرجة من الطين الأبيض على الطين الأحمر .. وعلى يده استفاد الكثيرون من خبرته في مجال صناعة الخزف وفي طليعتهم ابنه السي عبد الرحيم الفخاري الذي تشرب هذه الصناعة على يد والده .فكما يؤخذ العلم من أفواه الرجال ، فكذلك إتقان صناعة الخزف ونقشها وتشكيلها لا يحذق فيه إلا من عرف أصول وخبايا الحرفة على يد أمهر ” المعلمين ذوي الموهبة الفذة والقلب النابض بحب الحرفة ..
توفي رحمه الله يوم 20 دجنبر 1989 ، لكن صداه ما يزال يتردد على ألسنة الخزفيين سواء في مدينة أسفي أو خارجها.