ثقافة

القصيدة المولدية في الشعر الملحون – الحلقة الأولى

إعداد : الدكتور منير البصكري الفيـــلالــي / أسفـــي

بمناسبة حلول ذكرى مولد خير البرية سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، أهدي هذه الحلقات إلى روح فقيد العلم والثقافة والأدب والوطنية الصادقة ، عميد الأدب المغربي الدكتور عباس الجراري رحمه الله حيث اختلسه الموت من بيننا ، فالقلوب عليه ما تزال مكوية والنفوس صواد والجفون دامية ملتاعة بحرقة الأكباد لهول هذا المصاب الجلل ، لكن ليس عن قضاء الله تعالى من ملجأ ، ولا عن قدره من مفر . ” وبشر الصابرين الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا إنا لله وإنا إليه راجعون ، أولئك عليهم صلوات من ربهم ورحمة وأولئك هم المهتدون ” فجميل الصبر والعزاء في فقدان أستاذنا الجليل أهدى وأجدى . فالرزء في الراحل العزيز عظيم وكبير ، والخطب فيه جسيم وجلل . سكن حبه قلوب الجميع بلطف  معشره ونبل خلقه وسحر منطقه وبهج محياه وكرم نداه وتواضعه الجم ورأيه الثاقب .. فالرزء في الراحل العزيز عظيم وكبير والخطب فيه جسيم وجلل . فكأن لسان حاله يقول : ” لقد غار النبع وذوى الأيك وعاد الورد الناضر شوك قتاد ، وناح الشادي وضل الحادي ، وخلا النادي بعد أن هشم الساقي كؤوسه وصرف شربه ، وانزوى الشعر في حداد ومزقت الطروس وكسرت الأقلام وأهرق المداد .”

هـو حكــم اللــه ليــس يـعـقـــب         وما لامــرئ قضــى الله مهـــــرب

نـراع لهـول الصـدع ثم يردنــــا        إلى الصبر وعد الأجر عنه فنرغب

وليس يطاق الصبرعن كل فائت        نحـاولــه ، لكـن نكـل ونغـلـــــــــب

…..

فجعنا لفقد الإلف فقدك لا يرى          سواك هو الإلف الأليف المحبــب

ففي كل قلب من رفاقك منزل           تبـوأتـه والقلـب بالحب يسلـــــــب

وأوحش نادي رفقة العمر غمة          وأوحشت الدنيا فهـا هــي تنــدب

ويبكيك فينا من عرفت وغيرهم        سخيـن دمـوع همـع ليـس تنضــب

رحم الله أستاذنا الجليل ، وأسكنه فسيح جناته ، فقد كان محبا لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، كما كان من المهتمين بالتأليف والكتابة عن المولد النبوي في المغرب ..عدا ما كان له من إشراف على غير قليل من الأطاريح الجامعية .

لقد كان في كتاباته حول المولد النبوي متميزا وهو يقدم هذا الموضوع انطلاقا من كتابه القيم ” الأدب المغربي من خلال ظواهره وقضاياه ” معتمدا على التحليل العلمي الدقيق للموضوع “والذي ينم عن وعي عميق بتطور قصيدة المديح النبوي تاريخيا وفنيا بصفة عامة ، وبخصوصية هويتها المغربية بصفة خاصة . ” إضافة إلى البعد التأصيلي الحاضر بقوة في مقاربته لقصيدة المديح النبوي عبر تتبع مسارها التاريخي ..

من هذا المنطلق ، أولى أستاذنا رحمه الله عناية واهتماما لقصيدة المديح النبوي ، كونها ” دعامة فنية حية من دعامات التربية الهادفة إلى تصحيح المفاهيم وتقويم السلوك ، ورافعة أساسية في التنمية البشرية والفكرية الكفيلة ببناء مجتمع متراص ومطمئن ..”

ومعلوم أن المولديات قد اختصت بذكر شمائل النبي صلى الله عليه وسلم ونبل أخلاقه وأدبه وتصرفاته ..

ومن ثمة يعبر المغاربة بطريقتهم عما يخالج قلوبهم من مشاعر وأحاسيس صادقة تليق بمقامه الشريف صلى الله عليه وسلم. وهي مناسبة تتنوع فيها مظاهر وتجليات الاحتفال بالمولد النبوي الشريف.

وفي هذا الإطار، تفنن شعراء الملحون في نظم القصائد الشعرية التي تحتفي بالنبي عليه أزكى الصلاة والتسليم، حيث ظهرت قصائد في المحبة والعشق النبوي أثرت ديوان الملحون المغربي .

وقبل الحديث عن هذه المولديات في الشعر الملحون ، نشير إلى أن قصائد المولديات قد ظهرت في أواسط العصر المريني، فكانت تستهل بالحنين إلى البقاع المقدسة، وخاصة الروضة الشريفة، كما كانت تتناول الجانب النبوي الشريف وتعداد معجزاته صلى الله عليه وسلم. من ذلك مثلا مولدية ابن غازي ومطلعها:

 

باسم خلاق الأنام نبتدي صدر النظام     ثم نتني بالسلام عن رسول الله أحمد

 

وكان شعراء الملحون في العصر المريني يتنافسون في نظم القصائد المولدية ، وكباقي بعض الساحات العمومية في غير قليل من المدن المغربية كفاس ومكناس ومراكش وسلا، وأسفي  وغيرها من المدن التي كانت تحظى بمشاركة قوية وحضور لافت لغير قليل من الشعراء وهم يرددون أشعارهم أمام جمهور غفير ويتنافسون فيما بينهم بقصائد رائعة تتضمن المديح النبوي، لاختيار أجمل القصائد، حيث يتم تتويج صاحبها بلقب “شيخ أشياخ الملحون” بالمدينة في تلك السنة.

 

ومعلوم أن الاحتفال بالمولديات في المغرب ، كان قد عرف تميزا لافتا أيام العزفيين بسبتة.

وفي هذا الصدد يقول أستاذنا الدكتور عباس الجراري رحمه الله : ” يذكر تاريخنا أن العزفيين في سبتة، هم من الذين كانوا سباقين بالاحتفال بالمولد، وأبو العبـاس العزفـي  (المتوفى سنة 633 ه ) ألف كتاب ” الدر المنظم في مولد النبي المعظم ” وأكمله ابنه أبو القاسم العزفي. في مقدمة هذا الكتاب، نقرأ أن هؤلاء العزفيين هم أول من دعا إلى الاحتفال بالمولد النبوي في المغرب، وأول من أحدثه. ” كما يذكر الأستاذ محمد المنوني رحمه الله، أن الأسباب التي دفعت العزفي إلى الدعوة لهذا الاحتفال، تتمثل في حث أهل بلده على ترك بدع الاحتفال بأعياد النصارى وما يأتونه من المناكر والشنائع في أعياد النيروز والمهرجان ومولد السيد المسيح عيسى بن مريم .. حيث تشبعت ذهنيتهم بالطقوس النصرانية، فباتوا يسرفون في الاستعداد لهذه الاحتفالات وتعظيمها، إذ يبيحون المحرمات ويأتون الفواحش التي نهى عنها الشرع من وجهة نظر العزفي المتشبع بالذهنية الفقهية، فدفعه هذا إلى أنة يفكر فيما يشغل الناس عن هذه البدع .. فوقع في نفسه أن ينبه أهل زمنه إلى الاعتناء بمولد الرسول صلى الله عليه وسلم ، ورأى أن نشر دعوته لن تتم إلا عن طريق بثها في ذهنية الأطفال الصغار، لأن ذلك أنجح وأنفع على حد قوله.

 

وسنة الخلفاء الراشدين المهديين ، عضوا عليها بالنواجذ ، وعليكم بالطاعة وإن عبدا حبشيا ، فإنما المؤمن كالجمل الأنف حيثما قيد انقاد . ” رواه ابن ماجة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

11 − سبعة =

زر الذهاب إلى الأعلى
MCG24

مجانى
عرض