
ثقافة
الخطر الحق في “هجران” محاورة القرآن الكريم لا في دعوى “حرقه”…
الدكتور محمد التهامي الحراق
لا أستوعب عبارة إعلامية رائجة اليوم هي “فلان قام بحرق القرآن الكريم”؛ هو أحرق أوراقا، نسخة من “مصحف”؛ لكن القرآن الكريم ذا الحروف الإلهية، والذي يحيا بأنفاس القراءة بما هي تلاوة وتدبر، يستحيل إحراقه. إنه مختلط بلحوم أهله ودمائهم، كما قال بعض العارفين؛ بل أكاد أذهب إلى أن هذا الإحراق، المنكَر فعله المادي بكل شدة والمستنكَر بكل اللغات وباسم كل القوانين والأعراف والتعاليم لخبث نوايا أصحابه؛ هذا الإحراق بالنسبة لبواطن أصحاب الأنفاس القرآنية العلية، لا يزيد على كونه أشبه بإحراق العود، الذي تعبق منه أنفاس الطيب، لأن حروف القرآن الكريم لها طيب معنوي سماوي روحاني خاص يشمونها ببواطنهم، وأزكمت عقول المحرقين وقلوبهم عن شمها.
لذا، أرى أن الجواب على مثل هذا الفعل له شقان:
1_ محاصرة نوايا أصحاب هذا الفعل المادي بالمرافعات القانونية وتصحيح وضبط مفهوم حرية التعبير عن طريق الضغط الحقوقي والاجتماعي والإعلامي والاقتصادي والديبلوماسي…بشكل فردي وجماعي، بعيدا عن كل أشكال العنف التي لا تتلاءم وأخلاق القرآن الكريم ومحبيه؛
2_ استثمار العطش العالمي للمعرفة والفهم الذي ولده الحدث، من أجل تحويله إلى فرصة استثنائية للتعريف بعظمة القرآن الكريم ونورانيته، وحيا وبلاغة ومعرفة وقيما وأفقا وروحانية..وذلك باغتنام واستعمال كل الوسائل المتاحة بل وابتكار أخرى، فرادى وجماعات.
بهذا فقط، يمكن تحويل أنفاس حرق أوراق نسخة من المصحف إلى أنفاس “عود” بهي طيب ينعش العالمين.
طبعا، مثل هذا الحدث، أيضا، يدعونا لنعيد بناء علاقتنا بالقرآن الكريم، لتصحيح “تخيلات” عنه وعن قيمه ومعانيه، مثلما يدعونا لتجديد التعامل معه تلقيا ومحاورة ومعرفة وتذوقا وتخلقا وفهما وتفهيما لأنواره هنا والآن. إنه الورش المفتوح للعقل المسلم؛ والذي متى ما تخلى عنه، يكون قد هجر القرآن الكريم، بل وتسبب في أخس أنواع نسيانه، التي ربما جاء هذا الحدث لينبه العقول والقلوب لأخطارها؛ ورش المحاورة الاستمدادية الدائمة مع القرآن الكريم، بما هو المصدر الأساس والرئيس والمصيري لحياة العقل المسلم. دون ذلك، يكون هذا العقل قد حكم على نفسه بالموات والخروج من التاريخ، ومن ثم قد ارتكب ما هو أفظع من فعل حرق استعراضي مهماخبثت نواياه.
قال تعالى: ” وقالَ الرَّسُولُ يا رَبِّ إنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذا القُرْآنَ مَهْجُورًا” (الفرقان، الآية 30)، “هجران” محاورة القرآن الكريم بعقل متجدد وأسئلة متجددة ومفاتيح منهاجية متجددة وقلوب متقية متجددة؛ هذا “الهجران” هو اليوم أكبر خطيئة في حق الوحي القرآني الخاتم، إنه “الحرق الحقيقي” لآخر وديعة إلهية في الإنسانية.