ثقافة

معجزات الأنبياء في القصص القرآني…نحو فهم عقلاني إيماني..

الدكتور محمد التهامي الحراق 
بينما كنا نسجّل على إذاعة محمد السادس للقرآن الكريم حلقات برنامج “جل تر المعاني” المخصصة لسلسلة ” تدبرات في القصص القرآني”؛ وقد بلغنا الجزء  الثاني عشر من قصة مريم وميلاد عيسى عليهما السلام، وهي القصة الثالثة عشرة من القصص القرآني التي تناولناها بالتدبر؛ بدت لي ملاحظة في غاية النفاسة، مفادها أن القرآن الكريم، وهو يروي معجزات الأنبياء والخوارق التي أيد الله بها بعثاتهم إلى أقوامهم، يروي من خلال ذلك أيضا مسارات تطور العقل البشري؛ من الخضوعية إلى السحرانية إلى الآبائية…قبل أن يصل إلى “رشده” مع البعثة المحمدية الخاتمة التي صارت فيها المعجزة عقلانية من جنس التجريد و”العقل الاستدلالي” الذي بلغه الوعي البشري. وهو “عقل استدلالي” تخَلَّق من رحم التعالي القدسي التوحيدي، ولا صلة له بالعقل المحايث المتفاعل مع المقدس الوثني وتعدد الآلهة في السياق اليوناني. ها هنا عمق الاختلاف بين العقلانية الإيمانية المنبثقة من تحاور التعالي والتاريخ، الوحي والمنطق،  في الوحي القرآني، وبين العقلانية المنبثقة من الصراع بين اللوغوس والميتوس في النسق اليوناني.  لم يستوعب الكثيرون أن العلم التجريبي كان، بالنسبة إلينا، نتيجة طبيعية للانتقال من تجاوز الخضوعية إزاء قوى الطبيعة، إلى تجاوز السحر الذي يُخيِّل التصرف فيها، إلى الآبائية التي تعني جمود العقل في التعامل مع تلك القوى، إلى التنويرية الوحيانية التي تُحرّر العقل من الخضوع لقوى الطبيعة أو الوقوع في وهم إخضاعها بالسحر؛ وذلك من خلال استمداد التسيّد في الطبيعة من مهمة الإنسان الاستخلافية فيها. وهو المسار الذي كانت تطلع به معجزات الأنبياء، لكونها تخرق قوى الطبيعة فتحرر العقول من الخضوع لها، ثم تخرقها فتبطل تعلق العقول بالسحر وتخييل التصرف في الطبيعة، ثم تخرق قوى الطبيعة مستفزة العقل على التساؤل حول عمل الطبيعة وسنن اشتغالها؛ ومن ذلك كان ميلاد العقل الاستدلالي التوحيدي. وقد وقفنا في بعض القصص القرآني على نمطي الاحتفاء بالعقل عبر المعجزات، وهو احتفاء يتحقق عبر “الاستدلال على المعجزة”؛ وذلك عبر الاحتفاء بفعل التعقل والتساؤل، كما يتحقق عبر “الاستدلال بالمعجزة”؛ وذلك عبر تبيان حدود العقل، لا لقمعه وكبت سعيه للتطور،  بل لإنقاذه من التوثن والتجبّر والتكبّر،  ولدفعه نحو البذل الحثيث لتجاوز ذاته باستمرار.
لأجل ذلك، كان ختم النبوة إيذانا برشد هذا العقل، الذي من علامات رشده أن يظل دائم المراجعة لذاته في ضوء تطوره الذاتي،  وفي ضوء ما يتجاوزه من المعارف المستمَدَّة، نقديا وبشكل متجدد، من محاورة الوحي. هذا الأخير الذي لا يمكن أن يمد العقلَ بما يغذيه روحانيا دون أن تستفيد محاورةُ الوحي أيضا من ذاك النقد الذي يقوم به العقل باستمرار لأدواته ولأسئلته ولمنهاج تفكره.
ومتى ما كَفَّ العقلُ عن ممارسة هذا النقد لأدواته، والاستمداد من الوحي عبر هذه المراجعة نفسها لأشكال محاورة الوحي؛ تَجَمّد، وتراجع القهقرى نحو الآبائية أو السحرانية أو الخضوعية التي عملت بعثات الأنبياء على الإسهام في تجاوزها، وإنقاذ العقل من براثنها.
 هذا ما يظهر بجلاء عند التدبر العميق لقصص الأنبياء،  كما بَيَّنا ذلك بأمثلة ساطعة في أسمار “جل تر المعاني”، والذي يبث العاشرة مساء،  بتوقيت المغرب، كل جمعة على إذاعة محمد السادس للقرآن الكريم.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

20 − 6 =

زر الذهاب إلى الأعلى
MCG24

مجانى
عرض