
بقلم: الباحثة نعيمة غرافي (المملكة المغربية)
“بنات الخريف” هي الرواية الثالثة بعد “أمواج الروح” و”مرايا” للروائي المغربي مصطفى شعبان، صادرة عن “أكورا للنشر والتوزيع” في طبعتها الأولى عام 2022 موزعة على 228 صفحة من الحجم المتوسط في فصلين.

قراءة في العنوان وفي الغلاف:
يشكل العنوان مكونا أساسيا للنص؛ وهو بمثابة عتبة ولوج إلى فضائه الداخلي، بل هو هويته لأن النص بلا عنوانه يصير عرضة للذوبان في نصوص أخرى، و”بنات الخريف” عنوان مثقل دلاليا لنسيج سردي ثري؛ إذ تنطوي كلمة “بنات” على معاني الصبا واليفاعة و النضارة ولكن “الخريف” يحيل على فصل ذبول وأفول لدورة الحياة العادية للإنسان وللطبيعة ، لترتسم امام المقبل على قراءة هذا العمل الثنائية الضدية القائمة على حدي الحياة والموت بكل أبعادها الرمزية والتي تتماوج عملية السرد عبرها لتتوالد المعاني و تتناسل الدلالات ويتشكل متخيل حكائي ارتأى الكاتب إهداءه إلى روح الأخ الغائب الذي تصير” الامكنة مظلمة موحشة لغيابه”، ويأتي منطوق أبي حيان التوحيدي “اغرب الغرباء من صار غريبا في وطنه، وأبعد البعداء من كان بعيدا في محل إقامته” لتعضد فكرة الاغتراب كشكل من أشكال الموت في المكان وفي الروح ايضا…
صورة غلاف رواية “بنات الخريف” لمصطفى شعبان
وجه الغلاف صورة خمس شخصيات نسائية بمظهر حداثي، إحداهن في وضع إعاقة، تنوء أربعة منهن بحمل جهاز مكبر للصوت، فيما تتولى الخامسة فعل ما يشبه الصراخ لإسماع صوت تتبدد موجاته في الهواء. بظهر الغلاف نص يمتزج فيه منطوق ساردتين تتقاسمان الحكي في الرواية، ويتعالق هذا المنطوق مع العنوان بشكل لافت؛ إذ البعد الرمزي للخريف نلمسه قبل الولوج لعالم الرواية، فالخريف في هذا العالم هو خريف قيم وثقافة وحب وعمر. وحين نقرأ هذه العبارة على ظهر الغلاف” مشيتنا صارت عرجاء نتكئ على عصا الماضي حينا وعلى عصا الحداثة حينا آخر” فإننا نحال كقراء على ماض يثقل الكاهل بالحنين وبالذكريات وعلى حاضر يكبل الآمال والأحلام، لنصير أمام حالة إعاقة لا على المستوى الفيزيولوجي كما تشي بذلك صورة الغلاف ولكن على إعاقات في الوعي وفي الشعور.
التوالد السردي في الرواية:
ينبني المتخيل الحكائي في الرواية بالارتكاز على واقع حياة شخصيات، مجملها نسائية؛ في الوطن حيث تروي” كنزة” وعبر صوتها المتماهي مع ضمير المتكلم قصتها وقصص صديقاتها ومعاناتهن بين مطرقة البطالة وسندان العنوسة، وفي أرض الغربة حيث ساردة الفصل الثاني “صفاء” تنسج خيوط قصتها المتعالقة مع قصص شخصيات الفصل الاول ومع أخرى في بلاد المهجر.. ومن خلال التوليف بين فضاءات متعددة وشخصيات متباينة يمتح الروائي مادته الحكائية من العوالم الأنثوية الصرفة في ارتباطها بسياق تاريخي يوسم بالمتناقضات وبأنماط حياتية جديدة أحدثت تحولا في الفكر والسلوك والقيم، وفرضت ايقاعات جديدة للحياة.
تتولى “كنزة” السرد عن نفسها وعن الأخريات اللواتي يخضن تجربة العنوسة كخاصية أنثوية وتتقاسم معهن إكراهات الحياة المجتمعية والنفسية ، ولأول مرة يطرق هذا الموضوع بقلم رجالي في المنطقة الشرقية من المغرب…تقدم الرواية من خلال” كنزة” في الفصل الاول و”صفاء” في الفصل الثاني نمط الراوية التي هي في الوقت نفسه شخصية معنية بكل ما يتخلخل ويتحول في واقع آيل لآخر فصوله/الخريف، فهي الشخصية التي تحكي كل ما تراه وتسمعه وما تعيشه وتحكي أيضا ما تراه وتسمعه وتعيشه باقي الشخصيات الاخرى التي لا ترقى إلى موقع الراوي ولكنها تشارك في الحكي حوارا: “ياسمينة” تروي عن زوج خالتها و”كوثر” تروي عن حبيبها ، وتروي” صفاء” عن” بوغفالة” الذي يروي بدوره حيوات اناس كثيرين بعد أن كان موضوع حكي، بل إنه يمتلك أحيانا معرفة أوفر من تلك التي تمتلكها “صفاء” يقول:” أنا لا أبخل عليك بكل ما أعرف، أمدك بسر المهنة لتصبحي سيدة المكان،” سميرة الرياشة” كانت تشتغل بمقهى ” الكلب الذي يبتسم”” ص 185 يعرف “بوغفالة” صفاء وعبرها القارئ ب”اراضي النعناع البلدي” حيث تمارس الجالية المغربية نشاط بيع مواد البلد وحيث “يلتقي هؤلاء، يقاومون غربتهم” ص184. معرفة الساردة هي أيضا معرفة من يعرف حقيقة العلاقة بين أطراف الرواية، أي انها تمتلك معرفة ما يمكن أن يفسر ويقول الأسباب الخفية؛ “كنزة” الساردة لمجموعة من الوقائع في حياتها تطرح السؤال وتحلل أسباب التيه وأسباب العزوف عن الزواج ” من أين جاء استقراء مفاهيم عازب، عانس، فصارت احكاما تتداول ،، يستفزني النعت، يتأكد لي يوما بعد يوم أن هذا زمن الخوف نعيش فيه ولا نحيا، استنبتت فينا جذور الاستهلاك حتى صار الزواج من الكماليات” ص38.
رواية” بنات الخريف” محكومة بموقع الساردتين اللتين تفتتحان السرد وتختمانه وعلى امتداد النص تصاحبان باقي الشخصيات، تتركان لهن فسحة الكلام ثم تعودان لاستلام السرد في خطوط زمنية متقاطعة وفي أمكنة تتباين في انفتاحها وانغلاقها على هواجس ذوات مكلومة تحتل مواقع مركزية داخل الإطار العام للفضاء التخييلي.