ثقافة

تجليات السيرة النبوية في الشعر الملحون – الحلقة 23

د. منير البصكري الفيلالي / أسفي

لقد كانت هجرة النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه الكرام البررة من مكة إلى المدينة، مثلا بارزا عاليا من أمثلة القوة والحركية والنشاط والتجديد والبناء والخير والعطاء والتفاني في سبيل المبدأ، والسعي إلى إقامة أرسخ البنى لدين الله تعالى في الأرض ، ونشر الرسالة الإلهية، وتوسيع رقعة امتدادها.
ولا شك أن أهدافا سامية كهذه، تجعلنا نجزم أن هجرة الرسول الكريم من مكة إلى المدينة، لم تكن انهزاما في مواجهة عدو ، ولا هروبا من مقابلة الأحداث .. بدليل أنها لم تكن آنية سريعة عقب البعثة ، وإنما كانت بعد ثلاثة عشر عاما بذل فيها نبي الله صلوات الله عليه وسلامه في مكة أقصى جهده ، وأشد طاقته في الدعوة إلى عقيدة التوحيد والحق والخير والعدل والتحرر الإنساني والكرامة الشخصية، وتصحيح المفاهيم وإرساء معالم الفضيلة والأخلاق السوية المتزنة الثابتة .. فالرسول صلى الله عليه وسلم، لم يهاجر مع صحبه نتيجة ضعف أو خور وخوف ويأس، وإنما هاجروا بعد أن أوذوا وعذبوا وواجهوا كل عنت من طرف المشركين. لذلك، فهجرته عليه الصلاة والسلام إلى مدينة الأنصار، هذه البقعة المباركة، كانت فعلا منطلق الحياة والقيم الخيرة، ومصدر الإشعاع الحضاري، ومركز القيادة. يقول الشيخ الحاج أحمد سهوم متحدثا عن هذه الهجرة وكيف تحول الصراع بين الأوس والخزرج إلى وحدة وإخاء ومحبة :
وستقر المقام في الأرض الزينة          وطاب وراق عيش جمع المسلمين
             وعاشوا في يترب عيشة آمنـــة          سبحان الله كي التبـدا هــذا الدـــين
                                    سبحان الله كيف صار في داك الحين
            كان بين الخزرج والأوس كم عدوان       جا الدين جعلهم يا لامتي غخواني
           وبينهم وبين اليهــود كانت فتــــــــان       جا المصطفى وقطع دابر الفتانــي
           والمهاجر والانصاري ضحاوا إخوان     مشاركين القوت واللباس وسكاني
تبسمات الدنيا من بعد كانت ازمـــــان      عاقدة عبسة طالت كم من الازماني
           ولا بقى قلب المسلم في يترب غيضان      والصشكر للمولى بالقلب واللساني
  من هنا ،يتبين أن للهجرة من مكة إلى المدينة، آثارا بعيدة المدى في تاريخ الإنسان  تمخضت عنها بجلاء، من أهمها: زوال الظلم والطغيان والإعراض عن تقديس وتمجيد وعبادة الأصنام والأوثان، والتوجه إلى تفكير واع في ملكوت السماوات والأرض، كما أصبح الإحسان والحب وعمل الخير بديلا عن التقاطع والتدابر وحب الذات، وظهرت قيم جديدة أنجبتها الهجرة المحمدية تكمن في الحرية والعدالة الشاملة، وتنشيط سبل العلم والمعرفة والثقافة  وغير ذلك من المفاهيم الشخصية والاجتماعية.
لذلك، لم تكن هجرة الرسول صلى الله عليه وسلم مجرد تاريخ، أو حادث عابر يمر، فنتذكره في لحظة زمنية محددة، وإنما أمر حي في النفوس المؤمنة، ورمز لأي نصر إلهي يمكن أن يتحقق ويتجدد في كل زمن بتجدد صدق المؤمن، وتجدد الإيمان والعطاء وتنفيذ العهد مع الخالق عز وجل في أي زمان ومكان. قال تعالى: “إلا تنصروه فقد نصره الله إذ أخرجه الذين كفروا ثاني اثنين إذ هما في الغار إذ يقول لصاحبه، لا تحزن إن الله معنا، فأنزل الله سكينته عليه وأيده بجنود لم تروها، وجعل كلمة الذين كفروا السفلى وكلمة الله هي العليا، والله عزيز حكيم.”
يبدو إذن أن معنى الهجرة لم يكن هو التخلص من الفتنة والاستهزاء فحسب، بل كانت تعاونا على إقامة مجتمع جديد في بلد آمن. لذلك، أصبح فرضا على كل مسلم قادر أن يسهم في بناء هذا الوطن الجديد، وأن يبذل جهده في تحصينه ورفعة شأنه.
من ثمة، استطاع الرسول صلى الله عليه وسلم أن ينشر دينه بين أهل المدينة، وأن يجد من بينهم أتباعا كثيرين في فترة قصيرة، كما استطاع أن يصلح ذات بينهم ، ويوطد السلم بين عشائرهم ويعقد حلفا بين المسلمين من مهاجرين وأنصار، وبين اليهود. وقد قام الرسول صلى الله عليه وسلم بدور الرسالة والقيادة في المدينة .. وكانت الرحمة غالبة على الشدة والعنت حتى عاد الأمر إلى الإسلام وأهله في بضع سنوات.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اثنان × واحد =

زر الذهاب إلى الأعلى
MCG24

مجانى
عرض