
الدكتور عباس الجراري ، شخصية موسوعية متعددة العطاءات -الحلقة 24
إعداد : د. منير البصكري الفيلالي
وكما أوضحنا سابقا ، فإن الملحون هو العمود الفقري لهذا الأدب .. ومن ثمة ، حظي بعناية غير قليل من الباحثين والدارسين ، فظهرت الدراسات المتخصصة التي تتناول الشعر التعليمي في التوحيد والسيرة النبوية والمنازل الفلكية ، أو تلك التي تناولت الجفريات وشعر الألغاز والشعر الفكاهي ، إلى جانب وصف الطبيعة ومجالس الأنس والمرح ، ثم الغزل والنسيب والخمريات والهجاء وكذا الشعر المسرحي والرحلات الخيالية ، في حين تناولت الدراسات الأخرى ، اللغة والبلاغة والتخييل وغيرها من الموضوعات ، في الوقت الذي يكاد يغيب جانب مهم ، لم يحظ ـ لحد الآن ـ بالدراسة والنظر والتمحيص ، يتعلق الأمر بالنقد في الشعر الملحون ، حيث كان نصيبه من البحث والدراسة ضئيلا مع أهميته واتساع مداه . ومن ثمة ، بقيت كثير من جوانبه مطوي الصفحات ، مجهول الأفق ، مظلم الحواشي .. وحتى الأبحاث التي تناولت هذا الشعر ، يتبين أنها عالجته من زوايا مختلفة ، وتحكمت فيها رؤى متباينة ، وكأن تناول النقد في الشعر الملحون ، لا يرقى ـ كله أو بعضه ـ إلى مستوى البحث والكتابة النقدية القائمة على كفاية نظرية ومنهجية . ولتأكيد هذه الحقيقة نلاحظ أن الأبحاث والدراسات اقتصرت فقط على
ا ـ مؤلفات في فن الملحون وفي طليعتها نذكر كتابات أستاذنا الجليل الدكتور عباس الجراري ـ رحمه الله ـ الذي يعود إليه الفضل في الكشف عن مقومات الشعر الملحون ، حيث أبان من خلال كتابه ” القصيدة ” عن أهم الخصائص الأدبية والفنية التي تعرفها قصيدة الملحون .. فكان عمل أستاذنا الجليل خطوة كبيرة وجادة للتعريف بفن الملحون وتقديمه . وهذا ما يؤكده في قوله : ” هو أدب يغرينا ويجذبنا إليه “.. فهو إذن “صورة الشخصية الوطنية .. ودراسته تعزيز لإقليمية الأدب وتقرير لمذهبه .. وأنه مكمل للأدب المدرسي..” .. وبذلك ، تولى عميد الأدب المغربي حفظ هذا الأدب ، فأولاه الاهتمام البالغ والعناية الكافية منذ وقت مبكر ، على الرغم من موقف المثقفين في المغرب آنذاك ، ممن أنكروا عليه الاشتغال بهذا الموضوع .. وهذا ما يؤكده في قوله : ” ورأينا أن تكون دراستنا للزجل وصفية تسجيلية نقصد منها في المقام الأول إلى التعريف بالزجل تقريرا وتحليلا دون محاولة لمقارنته بالأدب العربي أو أدب اللهجات العامية الأخرى ..” . وعلى الرغم من ذلك ، انبرى الدكتور عباس الجراري وبهمة عالية لإدارة البحث حول الملحون ، لأنه كان يدرك ما لا يدركه غيره . وإيمانا منه بعمق الاعتزاز بالانتماء القوي لهذا الوطن ، وبصيانة الذاكرة الوطنية ، وترسيخ مقومات هوية الشخصية المغربية التي ما فتئ يعمل جاهدا من أجل إبرازها وتربية الأجيال على التشبث بها .
يتبع …