ثقافة

الدكتور عباس الجراري واهتماماته بالثقافة الإبداعية والتراث

ذ. منير البصكري الفيلالي / أسفي


مما لا شك فيه، أن الثقافة تعكس ذاتنا، وترسم ملامح هويتنا، وهى السبيل إلى تعزيز الاحترام والتسامح، ووسيلة لتحسين حياة الإنسان. ومن ثمة، فإن دور الثقافة الإبداعية في التنمية الشاملة ، تعد أساس الوعي في مواجهة التحديات، بوصف هذا النتاج الإبداعي والفكري شاهد على المراحل التاريخية التي عايشها المثقفون المبدعون.
 ومن هنا، يمكن رصد مختلف الأعمال الثقافية والإبداعية لعميد الأدب المغربي الأستاذ الدكتور عباس الجراري أطال الله في عمره. فهو نموذج الباحث المفكر المبدع الذي يقوم بتعزيز ثقافة الحرية والتواصل مع محيطه ومجتمعه العربي الإسلامي، من خلال أعماله
وما لها من العمق الإنساني في الطرح، لا سيما مع استهداف الهوية ومداهمة العولمة والثورة التكنولوجية للمجتمعات العربية التي سلبت المثقف دوره، وحق الإنسان في اختيار ثقافته الذهنية المستقلة دون الإضرار بالمجتمع، مؤكدا على أهمية مخاطبة الشباب من قبل المثقفين والمبدعين لبناء أجيال قادرة على مواجهة التحديات في الراهن والمستقبل.
فهو حامل مشعل الثقافة المنير، وصوت ضمير أمته الصادق نحو الحياة الحرة الكريمة والكرامة الإنسانية ، يظهر ذلك جليا من خلال قراءة كتاباته التي تتناول القضايا العربية والإسلامية بجوانبها النظرية والعملية ، مركزا على الجوانب الإنسانية والثقافية .. لأن تجربة المبدع والمثقف هي في المقياس الإنساني تجربة غنية دون شك ، تُعبّر من خلال النتاج الإبداعي والفكري لصاحبها عن الوعي والتقدم الحضاري ضمن إطار المرحلة التاريخية والبيئة الثقافية والمكانية .. ذلك أن إبداع الدكتور عباس الجراري ما يزال يواصل مسيرته، ليتصدّر المشهد الثقافي والإنساني، ويتابع مسيرته التنويرية والجمالية ، ولا أدل على ذلك من الكم الهائل من الإصدارات الأخيرة للنادي الجراري حتى في عز جائحة كورونا . وهي كتابات تبلور رؤية مستقبلية جديدة تسهم في تعزيز ثقافة عالمية إنسانية ذات خصائص كلية محددة تعمل ضمن عوامل أخرى مهمة على النهوض الحضاري للأمة . من هذا المنطلق ، يلاحظ أن هذه الأعمال الإبداعية للدكتور عباس الجراري التي تــَـرافـَـق فيها إيقاع التفكير مع إيقاع القوة في الخلق والإبداع ، بوأت الفكر الجراري مكانة أصيلة ، إذ إن إبداعاته الفكرية والثقافية ، تشكل في مجملها هدفا ومنبعا خصبا للحضارة الإنسانية وليس فقط للحضارة العربية الإسلامية . ومن ثمة ، يعد الدكتور عباس الجراري 
من أقوى وأذكى وأشهر من يكتب ويقود ويصنع ثقافة إبداعية رصينة ، غايتها استجماع قوة العالم العربي والإسلامي .. وهو ما أشار إليه أستاذنا الجليل بقوله : ” إنّ شتات العالم الإسلامي لا يمكن أن تلمَّهُ إلا الثقافة، حتى تتحقّق المصالحة التي نفتقدها اليوم بين المسلمين عبر المصارَحَة .. مضيفا في محاضرته التي افتتحت ” ملتقى الإيسيسكو الثقافي “، أن العالم الإسلامي يحتاج تشخيصا دقيقا لتراثه، وماضيه، لنحدّد الصالح فيه والطالح، فنحتاج أن نعرف التراث الحافل الذي يمتد قرونا على مختلف أصعدة العالم الإسلامي .. ولا يمكن الحديث عن الماضي المجيد دون بحث ونظر فيه، لأن شوائبَ كثيرة دخلته، ونحتاج معها تصفيته لنأخذ بصالحه ” . 
 إن المتأمل في هذا الكلام ، يدرك ـ لا محالة ـ عمقه وأصالته ، فهو صادر عن رجل خبر الفكر والثقافة وغاص في أعماقهما .. فشكل بذلك قفزة حضارية وهمسة تاريخية ، وظاهرة فكرية على أمتنا العربية الإسلامية أن تفتخر وتعتز بوجود أمثال هؤلاء الرجال لما يحملون من فكر إنساني عميق ، فكانوا مشاعل على دروب الثقافة الإبداعية ، فأنتجوا هذا التراث الأدبي الفكري الناضج ، وخططوا لنا لنكمل المسيرة بنفس الثوابت التي وضعوها ، وذلك على الرغم من التحديات والصعوبات التي أصبح يعرفها العالم اليوم ، مما كان سببا في الوضع الضعيف للثقافة خاصة في وطننا العربي . وهو ما يوضحه أستاذنا الجليل حين قال : ” إن من بين مشكلات الثقافة في العالم العربي الإسلامي اليوم، الانشغال بقضية التنمية ، وقضايا التقدم، والتركيز على الجوانب الاقتصادية والمالية، من صناعة وفلاحة، واستثمارات، علما أنها أمر أساسي وجيد، في حين أن التنمية وكل ما نسعى إليه ماديا، لن يقوم إلا إذا كانت الثقافة في انطلاقته؛ فهي وعي بالذات، ووعي بالهوية ومقوماتها، ووعي بالشخصية من لغة ودين ومعارف “.. ومن ثمة ، يضيف الدكتور الجراري قائلا :” إن القدرات موجودة في العالم الإسلامي، ومع الوعي بها والثقة فيها، يمكن أن نبدع وننتج الرقي والتقدم، في حين نستهلك اليوم التنمية والإنتاج اللذين يقدمهما لنا العالم الذي أحس بذاته وقدراته، دون تحقيق التنمية بمفهومها الشمولي المؤدي إلى الرّقيّ والتقدم ” .
 على هذا الأساس ، تتجلى أهمية الثقافة في كونها تصنع الإنسان وتنمي قدراته وتوجه ميوله وتصرفاته في حياته وفي مختلف جوانبها الفكرية والجمالية والروحية ، معرفتها وتذوقها والتعايش بها، فوظيفتها بمثابة وظيفة التهذيب والتشذيب للشجرة والرعاية والعناية بها حتى تحيى وتنمو وتزهر وتثمر في أحسن الظروف ، ويمكن أن ترقى الثقافة بالإنسان كما في الدول الراقية ، حيث القيم والأنظمة الراقية، أو تتقهقر به كما في الدول المتخلفة حيث القيم والأنظمة المتخلفة، إلى درجة تجد فيها شعوب هذه الدول تتصرف على طرفي نقيض اتجاه نفس العادات والمعتقدات والمواقف ومختلف القضايا .
 إن أستاذنا الجليل الدكتور عباس الجراري حفظه الله ، ما فتئ يبذل الكثير من الجهود منذ ما يزيد عن أربعة عقود في مجال تأسيس ثقافة إبداعية رصينة ومتزنة ، وينشر الاهتمام بالتراث المغربي جمعا وتحقيقا ودراسة، وإخراجه من غياهب النسيان وجعله في مصاف الآداب العربية والإسلامية والعالمية بما يزخر به من روائع النثر والشعر ونفائس التأليف . وقد أنتج هذه الاهتمام عند الدكتور عباس الجراري ظهور مدرسة فكرية أدبية علمية ثقافية بحثية بالمغرب عنيت بإخراج تراث الوطن . ولطالما كان تراث الأمم ركيزة أساسية من ركائز هويتها الثقافية وعنوان اعتزازها بذاتيتها الحضارية في تاريخها وحاضرها ، ولطالما أيضا كان التراث الثقافي مصدرا للإلهام والإبداع والعطاء .. لتأخذ الإبداعات موقعها في خارطة التراث الثقافي ، ولتتحول تراثا ثقافيا يربط حاضر الأمة بماضيها . فهي ممتلكات وكنوز وسند مادي و لامادي ، من خلالها تستمد الأمة جذورها وأصالتها ، لتضيف لها لبنات أخرى في مسيرتها الحضارية ، لتحافظ على هويتها وأصالتها .
 وتأسيسا على هذا الأمر ، شغل ويشغل فن الملحون أستاذنا الجليل الدكتور عباس الجراري منذ فترة غير يسيرة . نحن نعلم جيدا مدى تمسكه ـ حفظه الله ـ بالهوية والذاتية والشخصية المغربية . من هنا ، كان منطلقه في تناول التراث المغربي والفكر المغربي والهوية المغربية ، خاصة موضوع الملحون من حيث هو ذاكرة ، وفي سياق واقعه من منظور الآفاق التي تنتظره . ولا يخفى على أحد أن فن الملحون جزء مهم وركن ركين في التراث الشعبي بصفة خاصة والتراث الفكري والثقافي بصفة عامة .. وهو أيضا مع بقية أنواع التراث الأخرى ، مكون لذاتيتنا وهويتنا ، ولا يمكن التفريط فيه . نظر إليه أستاذنا كواقع أدبي وفني مكتمل الأوصال ، أي أنه اكتمل في مضامينه وأشكاله وأساليب تقديمه وترديده وإنشاده ..

وهكذا ، انبرت جهود أستاذنا إلى البحث في الملحون وفق منهج ورؤية علمية دقيقة ، ودراسة جادة تناولت هذا الشعر بالجمع والتدوين والوصف والتصنيف والتحليل ، دراسة خالصة لوجه العلم ، لا يفل من عزمها إهمال المهملين ، ولا ازدراء المزدرين ، ولا إنكار الجاحدين .
 يتضح مما سبق ، ما قام به الدكتور عباس الجراري من دور كبير في النهوض بالحياة الثقافية والفكرية والأدبية بالمغرب وخارجه، وما ساهم به في التأطير والتكوين العلمي لأجيال من الطلبة والباحثين، مدافعا بقوة في عدد من مقالاته ومحاضراته وكتبه عن الثقافة المغربية والعربية الإسلامية ، إلى جانب الرد على الشبهات والتهم التي يراد إلصاقهما بالإسلام من قبيل الإرهاب والتطرف والانغلاق .
 من هذا المنطلق ، عمل أستاذنا الجليل على تجديد دعوته إلى بلورة استراتيجية ثقافية ، بل والعمل على ” تثوير الثقافة ” من خلال تحريك عناصرها القوية ومقوماتها الحية، لتنهض بالدور المنوط بها في التوجيه والتقويم..

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اثنان × أربعة =

زر الذهاب إلى الأعلى
MCG24

مجانى
عرض