
تصنيف الملحون تراثا إنسانيا عالميا من قبل اليونسكو
إعداد : د. منير البصكري الفيلالي / أسفي
علم يوم الأربعاء السادس من دجنبر 2023 عن إدراج فن الملحون في القائمة التمثيلية للتراث الثقافي غير المادي للبشرية . وهو ما كان يسعى إليه المغاربة قاطبة ،وفي طليعتهم جلالة الملك سيدي محمد السادس حفظه الله من خلال الرسالة الملكية السامية الموجهة إلى أكاديمية المملكة المغربية بعد تفضل جلالته باستلام ديوان الشيخ سيدي قدور العلمي .
يقول جلالته : ” وقد سرنا أن تتولى الأكاديمية إحياء تراث المغرب بكل أنواعه وموضوعاته ، وأن يقوم بذلك صفوة من الأساتذة المغاربة المختصين في الموضوع ، وذلك في التزام بالمنهج العلمي المأخوذ به في نشر وإصدار كل صنف من أصناف التراث الوطني على الوجه الأمثل ، كما ابتهجنا باهتمام الأكاديمية بنشر شعر الملحون الذي كان للشعراء والزجالين المغاربة باع طويل فيه ، على مدى العصور الأخيرة تعبيرا عن الشخصية المغربية ، والتغني بما يختلج في نفوس المغاربة من مشاعر دينية وطنية وعاطفية . فكان لهذا الملحون في تعبيره المباشر ولغته الشعبية دوره الأدبي والحضاري في تشخيص الوحدة والتعلق بثوابت الأمة ومقدساتها .. وهكذا دعا جلالته إلى إلى تعزيز حماية التراث الثقافي غير المادي، وتبادل التجارب والأفكار في سبيل صونه ،كما دعا في رسالته إلى المشاركين في الدورة السابعة عشرة للجنة الحكومية الدولية لصون التراث الثقافي غير المادي لمنظمة الأمم المتحدة للتربية والعلوم والثقافة (اليونسكو) إلى ” البحث عن أنجع السبل لتربية الناشئة على أهمية تراثنا والاهتمام به ، كإرث بشري غني بروافده الثقافية المتعددة، وروابطه التاريخية الضاربة في عمق التاريخ . وفي السياق نفسه ـ يضيف جلالته ـ عملت المملكة على تنظيم ورشات وندوات علمية، وملتقيات دولية، وتظاهرات ثقافية، من أجل الصيانة المستمرة للتراث الثقافي غير المادي وتثمينه، الذي نعتبره رمزا للهوية وعنصرا أساسيا في ذاكرتنا، حاملا لمبادئنا وقيمنا المشتركة، وقابلا للنقل إلى الأجيال القادمة .
من هذا المنطلق ، فتراث الملحون هو تراث ذو أهمية ، وهو جزء من التراث اللامادي الذي ما فتئ جلالة الملك محمد السادس يلفت الانتباه إلى ضرورة الاهتمام به وصونه بهدف توسيع الاهتمام بهذا الفن الرفيع تحقيقا للأهداف التي خططتها أكاديمية المملكة المغربية للنهوض بالملحون ، وهو أمر سبق للأستاذ الدكتور عباس الجراري عميد الأدب المغربي إليه ، أي تعريف الناس بماهية الملحون الذي يتناول كل القضايا التي ينبغي أن تعرف عن الملحون بدءا من اللغة إلى الأغراض إلى الأشكال والأساليب الفنية ، ثم إلى طرق الإنشاد والأداء . والأكاديمية بالمملكة المغربية ـ يضيف الأستاذ الجراري ـ وهي تعنى بموسوعة الملحون ، ما كانت لتقتصر على إصدار دواوين الملحون ، ولكنها تفكر اليوم في إصدار أنتولوجيا الملحون.
وللحقيقة التاريخية ، لا بد أن نشير في هذا السياق إلى الجهود الحثيثة التي بذلها الأستاذ الدكتور عباس الجراري في هذا المجال ، فإليه يعود الفضل في سبر أغوار الملحون ، مبرزا خصوصياته ومثابرا على إحيائه والمحافظة عليه بكل إخلاص وتفان . فلقد ظهرت لدى أستاذنا الجليل الدكتور عباس الجراري علامات الاهتمام بالملحون منذ فترة مبكرة ، حيث أبدى استعدادات فطرية في الكشف عن جمالية قصيدة الملحون من خلال كتابه : “الزجل في المغرب ، القصيدة ” والذي قدمه في فترة مبكرة من تاريخ الجامعة المغربية والتي طبعتها توجهات لم تكن تنظر بعين الرضا لمثل هذا الموضوع .. حيث أعطى للملحون المكانة التي يستحقها . ولولاه ما عرف الملحون اليوم هذه الصحوة المباركة . فهو رئيس لجنة الملحون التابعة لأكاديمية المملكة المغربية ، أنفق الكثير من الوقت والجهد في سبيل أن يشهد فن الملحون نهضة كبيرة ، وهي نهضة تقارب اليوم خمسين عاما ، وذلك من خلال أعماله الرصينة ودعمه المتواصل للباحثين وتشجيعه الدائم للشعراء والمنشدين والمبدعين والجمعيات المهتمة بفن الملحون . فكل هذه الجهود تستحق الإشادة والتقدير ، وتدل على مدى التشبث بأصالتنا واعتزازنا بهويتنا ، مما يدل على مستوى الوعي والرقي الثقافي والنضوج الفكري والفائدة العلمية والقيمة الفنية لتراث الملحون المغربي الذي يشكل مادة خصبة للبحث العلمي .
لذلك ، لا نخفي سرا إن كان تسجيل الملحون تراثا إنسانيا عالميا من طرف منظمة اليونسكو، أن نقر بأن هذا التكريم للملحون كثرات ثقافي للإنسانية ، هو اعتراف بجهود أطراف متعددة في طليعتها الرؤية الملكية السامية في مجال صيانة وحفظ التراث الثقافي المغربي إضافة إلى جهود أكاديمية المملكة المغربية ، ثم وزارة الشباب والثقافة والتواصل لذلك ، فإن هذا التكريم للملحون ، هو ثمرة جهود مشتركة ، كل من موقعه . فهو تعزيز للبعد الحضاري لهذا التراث الوطني ، فلا ننسى بأن الإنسان عادة ما يلتصق أكثر بإرثه وماضيه ، وربما هناك تقصير منا جميعاً في هذا الموضوع، ونحن مطالبون بأن نتجه بقوة إلى دعم وخدمة تراثنا الحضاري بشكل جيد حتى يستطيع الإنسان والمواطن المغربي أن يقترب أكثر تجاه هذا التراث ويرتبط به، ويفتخر به ، باعتباره كنزاً حضارياً ثميناً سينعكس ـ لا محالة ـ على اهتمام المجتمع بهذا التراث وتعزيز المواطن له وهو إن فعل ، فإن ذلك يدل على وعيه وفهمه ونضجه الوطني ، علما بأن كثيرا من الدول اهتمت بالتراث، باعتباره إرثاً حضارياً ثميناً تفخر به، وانعكاساً طبيعياً للمسيرة الإنسانية، ومرآة للحضارات على مرّ العصور، وذلك عن طريق تعليم النشء على ممارسته واقعاً، وتفاعلاً مع تاريخهم الماضي، واستخلاص الكم الهائل من التراكم المعرفي في التراث الإنساني، بحضارته المتعاقبة المختلفة، وبقائه بكل جوانبه المعبرة الصادقة عن أصالة وعمق وامتداد هذا الشعب الذي أنتجه . لذلك ، فالملحون تراث مشترك بين روافد الثقافة المغربية العربية والأمازيغية والحسانية والأندلسية ، تمتزج فيه اللهجة العامية الراقية ، إن صح التعبير ، باللغة العربية الفصحى بشعرها ونثرها ، ذلك أن لغته تتميز بكل بلاغة العربية من استعارة وتشبيه وجناس وتضمين ولزوميات ، وكل ضروب البيان والبديع ، يدرك قيمته الدارسون والباحثون والمتذوقون له . فهو يتميز عن سائر الأنواع الأدبية ، مدرسية كانت أو شعبية ، بمداه الرحب وانسيابيته وقدرته على تصوير بواعث الفعل البشري وردود الفعل وجذور الإرادة الإنسانية في سعيه إلى فتح آفاق جديدة واستشراف معالم المستقبل . وهذا أمر علينا ألا نغفله ، لأنه يمثل الأرضية الحقيقية الفعلية في وجدان الناس ، ومنه يمكننا الولوج إلى فن الملحون بغية استجلاء مضامينه الغنية ، وتذوق معانيه المعبرة ، والكشف عن مظاهره الفنية والجمالية.
لقد شكل فن الملحون إرثا حضاريا مغربيا مهما ، يعكس هوية وثقافة المغاربة كافة ، نبع من صميم المجتمع المغربي من خلال إبداعات الحرفيين الذين استطاعوا إغناء الرصيد الثقافي الوطني بشكل يدعونا اليوم إلى رد الاعتبار لهم عبر تثمين هذا التراث وإعطائه المكانة التي يستحقها .. فهو ما يزال يساير تطور الحياة العصرية ويمثل المرآة الصادقة التي تعكس هموم الناس وتطلعاتهم وطموحاتهم .فلا عجب إذن أن يشكل الملحون بشعره وشعرائه ومنشديه وفرقه ، إرثا حضاريا يفتخر به المغاربة ، بل ويساهم في ربط أواصر ووشائج العلاقات الاجتماعية وترسيخ التلاحم الاجتماعي ، مما يجعله فنا يستجيب كليا لتعريف التراث الثقافي اللامادي ، على حد ما ورد في اتفاقية اليونسكو لسنة 2003 المتعلقة بصون التراث الثقافي اللامادي التي صادق عليها المغرب منذ عام 2006 لذلك ، نسجل أن الملحون ظل ديوان المغاربة ، ارتبط حميميا بالإنسان البسيط ولهجته القريبة من الفصحى ليكون خير تعبير عما يخالج هذا الإنسان في أعماقه .