
الخطابات السياسية والفكرية والدينية: إرادة القوة وقوة الإرادة
د. محمد التهامي الحراق
لعل العالم يسير إلى الهاوية. هذه أبرز خلاصة يستطيع المرء أن يصل إليها من تسارع التصريحات، وتصادم الإرادات، وانغلاق كل أبواب الرجعة نحو التوافقات في حرب روسيا والغرب الجارية أطوارها العسكرية في أوكرانيا. لا أحد أصبح قادرا على إنجاز مجازفة الدعوة للسلام، والتضحية من أجل ذلك. بل حتى مفكرو ومنظرو الجهتين، صار الصوت الغالب عليهم تجييش الناس وتعبئة الرأي العام وإعداد الجميع لأجواء الحرب، بدل التفكير في حلول مبتكرة ومبدعة تفتح باب الخروج من هذه الانسدادات التي تنسف كل توافق بين الأطراف، وتعطي الأولوية لإرادة القوة على قوة الإرادة. ومع كامل الأسف نجد الطرفين يستحضران، دعما للعنف وتغذيته، التاريخ والدين والمخيال والأساطير والرموز والاقتصاد وسجل الهويات….بحيث يستعملون ذلك في خطابات بلغت الغاية في اليبوسة والعبث والتلفيق والحرتقة؛ ذلك أن تلك الخطابات صارت جزءا عضويا من الصراع، وصارت تستجيب لواقع ما يفتأ يتردى، بدل أن تتحرر من الأجندات التدميرية لتبتدع آفاقا لإخراجنا من ويلات هذا التردي وبراثنه. لم أسمع، مثلا، صوت أكابر رجال الدين والفلاسفة والمفكرين والمثقفين في العالم ينتفضون ضد هذا المسار القاتم، والهلاك القادم؛ لينطرح من جديد سؤال قديم: أين الحكماء؟؟ ….الصوت فقط للمحللين السياسيين والعسكريين، ول”جنود” الحروب الإعلامية، صغيرها وكبيرها، جليها وخفيها.
وأسفي خصوصا على أوربا الأنوار، والحداثة، وما بعد الحداثة….حيث نلفي انهيار القدرة على تدبير السائر، و قصورا فظيعا في التفكير في حاله ومآله؛ بله التوقع والتأثير في المستقبل. وقعت أوربا بين كماشة العقل الأمريكي الرأسمالي العولمي البرغماتي وبين الطموح الامبراطوري الروسي الذي انفجر بعد كبت. ويجد العالم نفسه في متاهة عنف ينمو ويتوحش بدون أي رادع أخلاقي أو قيمي أو سياسي أو اجتماعي، كأننا نسير حثيثا إلى مآس نراها قدرا حتميا، لا ندري ماذا بعدها؟؟…هل إعادة ترتيب القيم بما يجعل الحياة تستمر نوعا من الاستمرار، أم التقهقر نحو الدمار الشامل؟؟؟!!!!.
الأكيد أن الخطابات السياسية والفكرية والدينية عاجزة اليوم عن استيعاب هذا الجنون الذي تقودنا إليه الرأسمالية المتوحشة وعنجهية الليبرالية الجديدة، وهما تستنزفان الإنسان، حسا ومعنى، بلا عقل ولا قلب؛ حيث الاستثمار في الخوف والعنف هو رهان اللحظة التاريخية.
لست متشائما، إذ يُخرج تعالى الحي من الميت، ويخرج الميت من الحي، لكن هكذا أرى السائر السائد إلى إشعار آخر.