مجتمع

إضاءات خمس حول محاضرة وزير الأوقاف والشؤون الإسلامية الأستاذ أحمد التوفيق: “الدراسات الإسلامية إلى أين؟”

مع هبوب نفحات ذكرى “الإسراء والمعراج” العظيمة، وتجدُّد النقاش حولها في العالم الافتراضي، ليس فقط من زاوية العظة والاعتبار ، أو زاوية فقه السيرة النبوية، أو زاوية القراءة السياقية لسيرة النبي الكريم، أو زاوية الفهم العرفاني الروحاني؛ بل أيضا وأساسا من زاوية الصحة الوقائعية، والجدال الكلامي(التيولوجي)، والاقتراب النقدي التاريخي….؛ مع تجدد هذا النقاش وتوسُّعه، وغيابٍ شبه تام لأصوات جامعية تُنتج خطابا دينيا علميا وعقلانيا إيمانيا قادرا على بيان مناطات الإشكال والرد العلمي على ما يثار من أقوال، تبدو جليةً ناصعةً مواطنُ البياضات ومكامنُ الخصاصات في برامج ومناهج تدرسينا للدراسات الإسلامية في مجالنا التعليمي الجامعي؛ والتي وقف عندها بعمقٍ خاص ومنسيّ الأستاذُ أحمد التوفيق، وزير الأوقاف والشؤون الإسلامية، في محاضرته: “الدراسات الإسلامية إلى أين؟”، والمنعقدة بكلية الآداب والعلوم الإنسانية بالرباط، بتاريخ 15\12\2021. فكيف نستنير بهذه المحاضرة في فهم تلك البياضات؟ وكيف
السبيلُ إلى مسالكِ تجاوزها؟
للاقتراب من هذين السؤالين، أقترحُ أن نعود إلى بعضِ أبرزِ معالمِ تلكَ المحاضرَة، ناظرين فيها وفي تلقيها عبر إضاءات موجزةٍ خمس:
1- في الإضاءة الأولى، أسجل كيف أن تلك المحاضرة المتميزة، لم تحظ بما تستحقُّه من نقاش وحوار وتفاعل، إلا من استثناءات، غلب على بعضها التسرعُ في الحكم، وحجبَ بعضَها الآخرَ التناولُ الإيديولوجي عما تزخر به المحاضرة من إنارات علمية ودقة أكاديمية واستشراف بيداغوجي، فضلا عما ميّزها من أفق نقدي شجاع ومسؤول. وبَدَل النظر المنصِف إلى ما قدمته المحاضرةُ من تشخيص دقيق للواقع التعليمي الديني، وصياغة رؤية تركيبية عميقة لتاريخه وحاضره ومستقبله في المغرب؛ شملت مستوياتِ التأصيل ومقتضياتِ التنزيل في كل السياقات المؤطرة للأمرين؛ من سياق ديني_ سياسي، وسياق عَقَدي، وسياق الحرية، وسياق أكاديمي، وسياق اجتماعي، وسياق عالمي؛ وما اقترحته من مبادئ نفيسة بلغت اثنين وعشرين مبدأ لصياغة آفاق هذا الحقل العلمي والمعرفي ليستجيب لحاجيات العالِم المبلِّغ خريجِ الدراسات الإسلامية، وللمطلوب منه وطنيا وعالميا، دينيا وأكاديميا؛ بدل كلِّ ذلك، راحت بعضُ الكتابات والتعاليق تركز على صفةِ المحاضِر الرسمية وعنايتِه المخصوصةِ بالإمامة العظمى وبالشأن الصوفي، ولم تقرأ أهمية تينك الصفة والعناية ضمن النسق العام للمحاضرة، وما تكفلانه لصاحبها -وهو المؤرخ والأكاديمي أيضا- من قدرة على إنتاج قول سديد ومفيد لمستقبل الشعبة وآفاقها. الأمر الذي فوَّت على كثير من تلك التعاليقِ والكتاباتِ إدراكَ الأبعاد العميقة للمحاضرة في إعادة بناء الدراسات الإسلامية، بما يجدد من حضورها في النسق الديني المغربي الراهن والنسق الأكاديمي العالمي المعاصر، وبما يحرِّرُها مما سماه المحاضِر ب “أزمة النشوء”، ويمنحها “ميلادا جديدا” في النسقين حسب توصيف د.إدريس الكنبوري في المائدة الفكرية التي نظمها موقع MCG24، حول المحاضرة، والتي ستبث قريبا بحول الله على الموقع المذكور.
_ الإضاءة الثانية: بالعودة إلى هذه المحاضرة الغنية، نجد الأستاذ أحمد التوفيق بقدر ما يدعو خريجَ الدراسات الإسلامية إلى التأهل العلمي والأخلاقي ليكون منسجِما مع النسق الديني المغربي عقيدةً وفقها وسلوكا، ومدرِكا لأهمية الإمامة العظمى في ضمان هذا النسق، ومن ثم مُسْهِما في تحقيق أمن الجماعة واستقرار الأمة؛ بقدر ما يدعو المحاضرُ أيضا هذا الخرِّيجَ إلى تملُّك أدواتِ البحث العلمي والأكاديمي في مجال الدراسات الإسلامية العالمية، من إتقانٍ للغات القديمة واللغات الأجنبية الحية، وتعرف على سائر الأديان، وتمكُّن من معارف الفلسفة والمنطق سواء منه الأرسطي أو المعاصر، وإلمامٍ بمناهج العلوم الإنسانية بمختلِف فروعها وشُعبها، وخصوصا علمَ التاريخ لمركزيته في العلوم الاجتماعية المعاصرة، ولأهميته في تبديد كثير من الأوهام وسوء الفهم للتاريخ الإسلامي والكوني. وقد كان الأستاذ التوفيق في محاضرة افتتاحية بكلية الشريعة بفاس بتاريخ 6\01\2021 بعنوان “الخلفيات الاجتماعية لبعض وقائع تاريخ الإسلام وقراءتها في ضوء السياق المعاصر”، قد أكَّد أن من هفوات تاريخ المسلمين “كونُ علم التاريخ لم يُصَنَّف ضمن العلوم الشرعية، وحيثُ إن الأمر كذلك، فلطالما خفيت عن المسلمين في ماضيهم وحاضرهم أمورٌ ٌتتعلق بتسديد مسيرة التدين اعتبارا بدروس التاريخ، تاريخِ ما قبل الإسلام وتاريخِ ما بعد انقطاع الوحي”. مما يعني أن عدمَ إدراج علم التاريخ ضمن العلوم الشرعية قد فوَّت على المسلمين فهمَ كثيرٍ من سنن الله في التاريخ كما أضاءها القرآن الكريم نفسُه، مما جعلهم لا يعتبرون بهذه السنن في استيعاب كثير من الظواهر والأحداث التي شكلت تاريخَ ما قبل الوحي وبعدَه ومفارقاتِه.
_ الإضاءة الثالثة: إن النَّفَس النقدي اللطيفَ الذي طبع محاضرة “الدراسات الإسلامية إلى أين؟”، سواء ببيان خلل المناهج التعليمية والبياضات التكوينية في الدراسات الإسلامية في العالم الإسلامي عموما، أو برصد عدم مواكبة خريج الدراسات الإسلامية في المغرب لحركية مجتمعه الثقافية والسياسية ولتطور البحث الأكاديمي العالمي في هذا الحقل المعرفي؛ هذا الرصد النقدي جعل المحاضرةَ تقترح آفاقا رحبة لبعث الروح في الدراسات الإسلامية ووظائفها ومسارات خريجيها وطنيا وعالميا. ها هنا ستجد الأسئلةُ المستجِدةُ حول معجزةِ الإسراء والمعراج، وغيرُها من الأسئلة، أجوبتَها العلمية البعيدة عن لغة التبديع والتفسيق والسجال المخالِف لروح العقل و أخلاق الإيمان. فالانفتاح على اللغات القديمة وقراءة النصوص الكتابية في لغاتها “الأصلية”، وتملّك معارف تاريخ الأديان المقارن، وعلوم الحفريات والفلسفة وسائر العلوم الإنسانية…. إلى جانب الامتلاك المتين للعلوم الشرعية وما يتصل بها من المعارف وعلوم الآلة….كل ذلك سيتيح لخريجي شعبة الدراسات الإسلامية إمكانياتٍ كبرى للمزاوجة بين تلبية حاجات الحياة الدينية في مجتمعهم الثقافي والسياسي، وكذا الانخراطَ العلمي الجاد والجدي والمجدِّد في الأبحاث العلمية المتعلقة بعلم الإسلاميات في مرحلته الأكاديمية العالمية ما بعد الاستشراقية.
_ الإضاءة الرابعة: لم يكن اقتراح الأستاذ أحمد التوفيق تدريسَ الإمامة العظمى في شعبة الدراسات الإسلامية بمعزِلٍ عن هذا السياق الاقتراحي العام للنهوض بمستقبَل الدراسات الإسلامية بالمغرب؛ ذلك أن العالِم المبلِّغ خريجَ الدراسات الإسلامية يُسهم في تأطيرِ الناس وتوجيههم دينيا، ومن ثم في ضمان المشترَك الروحي الجماعي الذي يوحِّد الوجدان العام للامة، و حماية أمنها الروحي. فهذا الأمنُ وذاك المشترك هما اللذان يضمنان حرية الاختلاف في سائر القضايا الأخرى وحقَّ إبداء الرأي وحمايته من أمرين: من خطر ِتسلط الأحادية بإلغاء التعدد، وخطر زيغ الاختلاف وانحرافه إلى الفُرقة والتمزُّق. ذاك ما تضمنُه مؤسسة إمارة المومنين بما هي نظام تعاقدي ومؤسسة دستورية، وهي تُنقِذ المشترَك الديني والروحي من الاستغلال السياسي لطرفٍ ضد الآخر داخل الأمة الروحية الواحدة. أمرٌ أدركه في العقود الأخيرة اليساريون والليبراليون أكثر من غيرهم، بعد أن كانوا يقدِّسون “العلموية”، ويسيؤون تقديرَ موقع الدين في الوعي الجماعي، ويحاربونه بشراسة، حالمين بإقصائه التام من الحياة والمجتمع. لذا، فإن اقتراحَ تدريسِ الإمامة العظمى يندرجُ ضمن أفق صيانة الوحدة الروحية للأمة، والكفيلِ بضمان التداول الديموقراطي والتعددي الرشيد في مختلف شؤونها الدنيوية والتدبيرية، دون أن يستحيل ذاك التعدد إلى خلاف يمزق تلك الوحدة الكلية الناظمة للأمة.
_ الإضاءة الخامسة: إن تركيزَ المحاضرة أيضا على البعد الصوفي ليس أبدا عابرا أو مجانيا أو تلبيةً لهوى ذاتي شخصي؛ بل هو تركيز على التزكية بما هي لبُّ ورحيقُ وثمرةُ المهمات الأربع للعالِم المبلِّغ، والتي ورثها العلماءُ عن العلِم النبوي، وهي مهماتُ تلاوة الآيات، والتزكيةِ، وتعليم الكتاب، وتعليم الحكمة. تلك التي استنبطها الأستاذ التوفيق من قوله تعالى: “هُوَ ٱلَّذِى بَعَثَ فِى ٱلْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِّنْهُمْ يَتْلُواْ عَلَيْهِم ءَايَٰتِهِۦ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ ٱلْكِتَٰبَ وَٱلْحِكْمَةَ وَإِن كَانُواْ مِن قَبْلُ لَفِى ضَلَٰلٍۢ مُّبِينٍۢ وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ”، (الجمعة، الآيتان2_3). أضف إلى ذلك أن عنايةَ المحاضِرِ بالتزكية نابعٌ من الإهمال الذي طال البعدَ الصوفي في حقل الدراسات الإسلامية، والمرتبطِ بالسياق الخاص الذي طبع موقف السلفية الوطنية من هذا البعد انطلاقا من انحرافات بعض أدعياء التصوف، مما يعني ضرورةَ استئنافِ ما قام به بعضُ أعلام هذه السلفية مثل الأستاذ علال الفاسي في إعادة الميزان وتسديد العلاقة بثابت التصوف، بوصفه عمادا رئيسا من أعمدة تدين أهل المغرب؛ بل واستثمار الحاجة المعاصرةِ لميراثه الأخلاقي، والانفتاح الكوني على ذخائره العرفانية، بعيدا عن تلك الأحكام الإيديولوجية المسبَقة على الصوفية، دون معرفة علمية عميقة بتاريخهم ونصوصهم. ذاك ما جعل الأستاذ التوفيق يقترح عمليا مادةً تخليقية تطبيقية لمحاسبةِ النفس، والخروجَ إلى المجتمع لنشر قيم العطاء والخير، ويقترح علميا تدريسَ الصوفية التربويين قبل الإجازة والعرفانيين في الدراسات العليا؛ أي بعد أن يتأهل الطالبُ للخوض في أعالي المعارف وامتلاك أدوات الاقتراب من خواص النصوص الصوفية. وبهذه المقترحات يفتح الأستاذ التوفيق، وبالتنسيق مع مشيخة العلماء، البابَ للاستفادة العملية من أخلاق التزكية التي يُعنى بها تصوفُ التربويين، مثلما يفتح بابَ الانخراط العلمي في الحوار حول كونية الإسلام، من مدخل العناية العالمية بكبار الروحانيين وبتصوف صفوة من العرفانيين المسلمين . ثم إن من شأن تلك المقترحات، أيضا، أن تبدِّد كثيرا من الأحكام الإيديولوجية حول تاريخ التصوف وأعلامه، وأن تصحِّح كثيرا من المغالطات المتعلقة بالتصوف العرفاني تعيينا، والناجمة غالبا عن سوء الاطلاع وقلة الباع.
إجمالا، لم تخلُ المحاضرة من إناراتٍ حول كل الاختيارات التدينية المغربية والتي ترسخ توهج النموذج المغربي في التدين، مثلما لم تخلُ من نَفَس نقديّ ذكيّ يُبرز المواضيعَ اللامفكر فيها في الدراسات الإسلامية على امتدادِ العالم الإسلامي عموما. كما أن المحاضرةَ اقترحتْ مساراتٍ بحثيةً كفيلة بجعل خريج الدراسات الإسلامية فعالا في محيطه، مُسْهِما في استقرار مجتمعه، منخرِطا بإبداعية في الأسئلة المعرفية العالمية الخاصة بالإسلام، بل وبالقضايا الدينية والرهانات الروحية الكونية في زمانه. على أن تلك المسارات والاقتراحاتِ ستبقى آمالا معلَّقةً ما لم تجدْ من لدن أهل الشأنِ والجهات البيداغوجية الوصية النظرَ الرشيد للتطوير والأجرأة التنزيلية.
إنها إضاءات وجدتُني مدفوعا لتدبيجها واستحضارها، حين بَدا لي البونُ الشاسع بين ما تَقتضيهِ مناقشةُ أسئلةِ بعضِ المعاصرين حول معجزة الإسراء والمعراج، وبينَ طبيعة التكوين الذي يتلقاه شبابُنا في شُعَب الدراسات الإسلامية. تكوينٌ لا سبيل لتجاوز بياضاته دون مراجعته على هدى الاقتراحات التي قدمتها محاضرة الأستاذ التوفيق؛ وذلك لإقدار خريجي الدراسات الإسلاميةِ على الإصغاء لمثل هذه الأسئلة الجديدة والمحرِجة وتناولها بعمق عقلاني إيماني؛ يبدِّدُ مغالطاتِ المغالِطين، ويدفعُ شبهاتِ المحَرِّفين، ويرفع أي تناقض بين إيمان المؤمنين، والنتائج العلمية للباحثين المحققين.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

16 − خمسة =

زر الذهاب إلى الأعلى
MCG24

مجانى
عرض