
ثقافة
شَهْدُ ودَاع…وشَاهدةُ محبّة
(نص كلمة في حق المرحوم الكبير العزيز د. مولاي عبد الله الوزاني في لقاء تأبينه بدار الآلة – الدار البيضاء يوم الخميس 07 ذو القعدة 1443هـ موافق لـ 07 يوليوز 2022)
الحمد لله العزيز الغفار، والصلاة على سيدنا محمد مشكاة الأنوار، وعلى آله الأطهار، وصحابته الأبرار ، وجميع من اغترف من معينهم من الصالحين والأخبار.
“كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالإكْرَامِ” (الرحمن، الآية 26)
1
لم أُفِق بعدُ من ارتدادات زلزلة الفراق. وداعٌ جمّد كل أحاسيسي عند برزخِ الطيش. ألقى بدخيلتي في دوامة العدم. وضَمّخ صمتي بشرود نازفٍ أليم. لم تجفّ دموعُ التذكر وزفرات الإقرار والتسليم بأن الفراق والوداع وقع بهما التدبيرُ في القضاء والقدر؛ وأن الفناء أفنَى حبيبًا وأن الحق هو الباقي أبدا بلا زوال. وكأن في النَّفْس بقيةً من أمل غائر أن أسمع من مولاي عبد الله نداءً، أو أتلقى منه مكالمةً، أو يجمعنا محفلُ ذكر أو مذاكرة، مائدةُ فكر أو وجدُ مسامَرة. فقد كان تواصلنا لا ينقطع، فهو شقيق لا تُمَل معاشرتُه، طيّبٌ تُستَعذَبُ كلماتُهُ، رهيفُ الإنصات، صَدوقُ الرأي، مُيسِّرٌ للعقبات، مُبدِعٌ في المسارعة للخير، لا يميلُ للسّجال، بل يُدلي بحُجَّته، ويستكينُ للبشرى والأمَل.
2
لم يجرُؤ لساني إلى اليوم أن أتحدثَ عن مولاي عبد الله، أخي وصديقي وشقيقي في المعرفة والعرفان، في الذكرِ والفكر، في الصمتِ والصوتِ؛ أن أتحدثَ عنهُ بفعلِ “كَان”. فماضيهِ لم يكنْ قطُّ ناقصًا، و”كانَتُه” كاملةٌ هي؛ اكتملت بأخلاقِه الرفيعة، وسِمْته الأنيق، وإهابِه المشرق، وعلمِه المتنوّع، وصمتِه الحكيم، وصوتِه المحرابي الرخيم، ووفائه الراسخ لأحبائه في السرِّ والعلنِ، في السراء والضراء، وتحمُّلِه للأذى في صبر أيُّوبي عزيز ونادر. تلك المزايا وغيرُها جعلت من حضورِ مولاي عبد الله في المجالسِ أمرًا لافتًا، فأنفاسُه سليلةُ الأشراف والذاكرين والمحبّين للمصطفى صلى الله عليه وسلم، إنه شريفٌ متوهِّج، نورُ بيت النبوءة يلتمع في وسيمِ محياه، وفي أمثاله قال القائل:
جعلُوا لأبناءِ الرسولِ علامةً ** إن العـــــــــــلامةَ شأنُ مَنْ لم يُشهَرِ
نورُ النبوءة فِي وسيمِ وجوهِهِمْ ** يُغنِي الشريفَ عن الطرازِ الأخْضرِ
3
لا أزعم أنني أقدم شهادةً في شقيقي الروحي مولاي عبد الله، فهو لم يمُتْ في دخيلتي، ولن يغيبَ عن سريرتي، بل سأكتبُ له شاهدةً على قلبي ترثي غيابَه في الحسّ ووهج حضوره في معناي. وأجدُ الأوصافَ تقول بعضا من مزاياه وتخون أخرى؛ بل أجد الصمت الخاشع أجدرَ وأجدى في قول بعضٍ من رفيعِ مكانته وبديع منزلته في محافل العلم والولاية، محافل الذكرِ والصلاة على الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم. ومع ذلك أستأذن روحَه في بعض الخيانة…طلبا لقليل الإبانة؛ فهو السَنيُّ علما، الزهيُّ سَمْتا، البهيُّ حضورا، النقيُّ سريرة، المبادرُ في الخير، الساعي في المَبرَّات، المؤلِّف المحاضرُ، الإعلامِي المشعُّ أصالة، والمضيء بفكره جوانب شتى من أسئلة “الهنا” و”الآن”. وتعلمون، مثلما علّمتنا الحكمةُ، أن السفرَ مختبَرُ الصداقة. سافرتُ مع مولاي عبد الله، رفيقا ومُرافقا، فكانت رفقةَ ود وكياسة وصبر وعلم ونكتة، رفقةَ متعة وفائدة، اكتشافٍ وفرح. وفي الجماعة يتحمّل عنِ الجميع ما لا يُطيقُه أحدُنا؛ إذ كلّما استعصى على أحدِ أفراد الوفد المسافِر أمرٌ، كانت كلمة السر في حلِّه: مولاي عبد الله. حصل ذلك مراتٍ شتى، في تونس، وتركيا، وفرنسا، والولايات المتحدة الأمريكية….وغيرها.
4
مولاي عبد الله في المحافل الزاوياتية والمؤسسات الجمعوية رجلُ إجماع. ذاك سر تصدُّره وتصديره في المجامِع والجمعيات. فقد ترأس “مؤسسة مولاي عبد الله الشريف للدراسات والأبحاث”، و”مؤسسة مولاي ادريس للدراسات التاريخية والشرعية”، و”رابطة مجمع الصلاح بالمغرب”…وكان نائبا للرئيس في مكتب بعض الهيئات الوطنية الكبرى أيضا، مثل “جمعية هواة الموسيقى الأندلسية بالمغرب”، و”الهيئة العليا لجمعيات المديح والسماع بالمغرب”. أما حضوره الإعلامي سواء على القناة الثانية أو قناة السادسة أو قناة M24، أو ضيفا على سائر الإذاعات والقنوات الوطنية والدولية والمجلات المكتوبة والرقمية…فحدث بلا استدراك. مولاي عبد الله أيضا واحد من أبرز وجوه الحوار الديني في المغرب؛ إذ له صداقاتٌ كبيرة مع ممثلي المسيحية واليهودية في المغرب، وله حضور استثنائي في لقاءاتِ الحوار الديني ترسيخًا لثقافة السماحة والتعايش والقبول بالمختلِف وبناء المُشترَك الإنساني. أما صلته بمشرق سلالتِه الشريفة ومثوى أجداده بوزان، حيث انعقدت محبتي للرجل عقودا خلَت، فلها طعمٌ روحي خاص. حضوره في مواسم مولاي عبد الله الشريف، وليالي المولد النبوي الشريف بمزارات مولاي التهامي ومولاي الطيب وسيدي علي بن أحمد، وحضورهِ لليلة الوزانية الكبرى بموسم مولاي ادريس زرهون، وبذلِه الباذخ لإنعاش الثقافة الروحية والحيوية الفكرية والذكرية بمدينة وزان بالتعاون مع “جمعية الصفا لمدح المصطفى بوزان”…آخرُ فصولها، إسهامه الكبير في إنجاح الملتقى الأول لدار الضمانة عام 2019، وسعيهُ الجَادّ، وفي آخر سُويعات حياته، ضمن اللجنة التحضيرية للدورة الثانية المزمع تنظيمها شتنبر القادم بحول الله.
5
مولاي عبد الله كان مُنيرًا إذا حضر، مقنِعا إذا حاضر، مؤثِّرا إذا أشار، صَدوقا إذا نصح، صبورا فِي الخير، مُتحمِّلا إذا لُمِز، غيرَ حقود إذا لُذِغ، صفوحًا حتى وإن لم يُستسمَح، خَشوعا مخشِّعا إذا تبتَّل وتضرَّع، واجِدا محرِّكا للأحوال إذا تواجَد في “حلقة العِمارة”، مسافِرا بالأرواح إلى عوالم الحيرة في الله وبه إذا أطلق صوتَه الشعشعاني الرخيم بـ”جلالة الختام”؛ ختام حِلق الذكر ومجالسِ الصلاة على خير الأنام. دائمُ الابتسامة هو مولاي عبد الله، دائمُ الهدوء، دائمُ الأمل والتبشير. مولاي عبد الله يحمِل في هيئته وهندامه، في صوته ومِشيته، في سرده لـ “المولوديته” ورفعه للدعاء، في حضوره وغيابه…أثرا أصيلا تأدَّى إليه من أجداده عبَر قرون. كان الجميعُ ينحاش إليه؛ لأنه كان يعني لهم شيئا نادرا، يُروي فيهم عطشا يستعصي على القبض ويتعذّر على القول. ذاك سر من أسرار حبّ الناس له، ومعنى من معاني ما أُكرم به من قبول في الأرض، هو عنوان على حُبّ أهل السماء.
6
لن ننساك أيها الفائق مَعزةً؛ لن ننساك أيها الصّادق كلمة؛ لن ننساك أيها الرائقُ مَودة؛ لن ننساك أيها الحاذِق معاملةً؛ لن ننساك أيها الوفيُّ صحبةً؛ لن ننساكَ أيها المحمديّ نسبةً؛ لن ننساك أيها الربّانيّ وجدًا ومحبّة. لن أنسى أن حواجبَنا كانت تقضي الحوائجَ بيننا. لن أنسى سُرعةَ بديهتكَ في الخروج من المآزق؛ ولطافتَك في التخلص من المَحَارج؛ لن أنسى صمتَك الحكيمَ المُستوعِبَ للصدمات؛ لن أنسَى صوتكَ الجمالي المجلجلَ بـ “الجلالات”، صمتَكَ المُبللَ بماءِ الغيب، والمُنشدَ من رحم البهاء والحيرة:
أنتمْ في قلبِي وذِكركُم في فمِي** فكيفَ أسلُو أم كيفَ أنساكمُ
7
لذا، أهمس إلى روحك المحلِّقةِ في رياضِ القرب وسناءِ السماوات، باسم الزوايا والمواسم والمحاربِ والمزارات وخواصِّ البيوتات، باسمِ التجمعات واللقاءات ووهجِك في سائرِ المناسبات، باسم حلقات تلاوة “دلائل الخيرات” في النزاهات، وأنفاسِ الذاكرين والسكارى الإلهيينَ في حلقات “العِمَارات”، وأنغامِ النوبات بدار الآلة في مواعد الخَميسات…؛ باسم ذاك وغيرهِ أخاطب روحَك القاطنة فينا، وسرَّك الثاوي في قلوبنا، بما أجابَ به العارفُ سيدي محمد الحراق ذاك الصديق المناوِش، حين أنشد:
ظَنَّ الصديقُ سلُوَّ قلبِي عنكمُ** وسواكُمُ في خاطِري يُتَصَوَّرُ.
فغدا يُذكِّرُنِي عهودَ أحِبَّتِي ** فمتى نسيتُ عُهودَكُم فأذَكَّرُ.
فسلامٌ عليكَ يومَ وُلدتَ ويومَ رحلتَ ويومَ نلقاكَ عند الحقِّ كريمَا بهيّا.
محمد التهامي الحراق