ثقافة

“بنات الخريف” بين غربة المكان وسطوة الذاكرة.. قراءة في الفضاء الحكائي

الحلقة الثانية

 بقلم: الباحثة نعيمة غرافي (المملكة المغربية)

“بنات الخريف” هي الرواية الثالثة بعد “أمواج الروح” و”مرايا” للروائي المغربي مصطفى شعبان، صادرة عن “أكورا للنشر والتوزيع” في طبعتها الأولى عام 2022 موزعة على 228 صفحة من الحجم المتوسط في فصلين.

الباحثة نعيمة غرافي
الباحثة نعيمة غرافي

بين “الهنا” و”الهناك” بحث عن الهوية

   ليس غريبا والرواية رواية غربة واغتراب أن تطالعنا الساردة “كنزة” بواقع الفراغ الذي تعيشه منذ بداية الحكي، تقول بص 23 “ينتظرني فراغ واسع يمتد طيلة النهار وسيهرب النوم مني في الليل لا محالة” الوقت لديها وقت فراغ نهاري وأرق ليلي وهي المتخرجة من الجامعة والحالمة بوظيفة بالتعليم العالي، لكنها تلتحق بصفوف العاطلات عن العمل وعن الحياة وتنخرط مكرهة في عوالم التفاهة ” أقاوم قلقي بمسلسلات تتناسخ باستمرار، نعيش حياة أشخاص المسلسل، متاعب العلاقات العاطفية ونجاحها” ص 79 وتجعل من البحث عن زوج هاجسها الأوحد “أحتمي معه من الخوف الذي يتهددني لأشعر بالأمان على غدي، رجل له دخل نواجه به الأيام، رجل يخلص النية، يضع يده في يدي ونقول إلى الأمام وبدون تردد” ص32 ، ولأن شبح العنوسة يتهددها، وينطفئ بداخلها شيئا فشيئا ذلك الإحساس العذب بالأمومة، ترتد “كنزة” عن الكثير من قناعاتها كفتاة متعلمة واعية وترتمي بأحضان العالم الرقمي للبحث عن العريس الافتراضي، لكنها تصطدم بواقع موبوء “أسأله عن نظرته للمرأة فيجيبني بكلام عذب رقيق، أطمئن لأحاديثه الرصينة، أصدق، تتعدد الدردشات، ينزع جبة الفقيه، يتلون كحرباء ، يغير أسلوب الحديث شيئا فشيئا، تسدل حجب الفكر والثقافة وينطق عجبا: كيف أحوال الزينة ديالي”ص42 تدخل “كنزة” أيضا عالم الأبراج ، وتنحدر إلى عالم الشعوذة، تقترح عليها “ياسمينة” تجريب “لخفيف” عند “أم كلثوم”، “ياسمينة” التي تتوسم الخير من أفواج المهاجرين العائدين للبلد ، تترقب كل صيف عريس الغفلة، وتصير رغم انفتاحها الفكري رهينة الفكر التقليدي عن الزواج ، وتتحول العنوسة إلى ظاهرة مرضية أو حالة شذوذ مجتمعي تبتغي الشخصية التعافي منها خاصة وأن هاجس الأمومة يصير ملحا “أعرف أنني لن أركب قطار الشغل والوظيفة لكن علي أن أركب قطار الحياة ولن أقبل بصفة العنوسة” ص 95 ولكن “ياسمينة” تذوق بدورها مرارة الخيبة بعد اقتفائها أثر زوج “الشات” بلا جدوى لتسلو عن كل ذلك بالحلم ،الحلم بالعريس والأهازيج والزغاريد.

    يداهم الشعور بالخيبة ومرارة العيش شخصية أخرى من “بنات الخريف” وهي شخصية “كوثر” التي أنهت دراستها في الحقوق وتقدم بها العمر” وعينها على حبيب القلب وما بقي من أحلام لعلاقة الحب والالتزام وليس له عنوان قار إلا في قلبها” ص66 الحبيب الذي سوى وضعه في الخارج بعد رحلة من اللاشرعية والاغتراب وترك “كوثر” هائمة بحب موقوف التنفيذ، وقد ظلت تخلق الأمل في نفسها مؤمنة بأن “الحب وحده لا يوقفه شيء… وهو كالدخان لا نستطيع التكتم عليه” غير أن الفقر وقلة الوفاء يخنقان هذا الحب لتدخل كوثر عالم الكآبة منتهية إلى الجنون…

   شقت “نوال” أيضا رحلتها في البحث عن زوج، اقترنت بزهير لكنه تركها بعد احتفال وخطوبة ، فانضافت إلى قافلة العانسات العاطلات الغريبات في وطنهن ، و”كريمة” التي اقترنت برجل فقير اضطر للهجرة تاركا طفلين ، عادت إلى بيت أهلها بعد انقطاع أخبار زوجها، لتثبت في النهاية خسارة الرهان على الزواج دون تحقيق الاستقلال المادي في واقع تغيرت فيه قيم العلاقات الانسانية أمام سيادة التفكير المادي الخالص..

  ومن الضفة الأخرى تطل علينا “صفاء” الساردة الثانية في الرواية من قاعة مديرية الأمن في سعي لتجديد بطاقة إقامتها بباريس، لتقدم لنا نماذج من الشخصيات المهدد مصيرها هناك، وتبوح بشعورها بالتيه والضياع في بلاد حلمت وبنات جيلها بالهجرة إليها، تقول في ص 145 “تهت أستعيد مشاهد حياتي في باريس وهمومي مع الشهادة المغبونة، أراجع مرحلة بمرحلة ومحطة بمحطة أين ستذهب هذه المركبة وأين سترسو، البحر هائج وشواطئ الأمان تبتعد” ، حالة من التشتت الذهني تعيشه صفاء كلما أقدمت على تجديد إقامتها وخوف من أن تدخل عالم “اللاشرعية” ،،، ومنذ بدء السرد من طرف “كنزة” نلمس ذلك الحضور الطاغي لشخصية “صفاء”، إنه الحضور في الغياب الذي يعلن عنه بالصفحات الأولى من الرواية ، تقول “كنزة صفاء التي هاجرت إلى الضفة الأخرى، أستاذها المشرف لا يفهم إيقاع خطواتها في البحث، تعود خطوتين إلى الوراء، توقف بلوغ الشهادة ثم تتقدم متثاقلة إلى الأمام” ص 25 لا تني الساردة الأولى أن تحث الثانية في البقاء هناك رغم كل الإكراهات، ومنذ بدء السرد يسكن القارئ الإحساس بمأساوية الوضع وتأزمه هنا وهناك، تقول “صفاء” ص 26″ محظوظ من يعيش في بلده وغير بعيد عن ثقافته، هو من السعداء من ضمن قوته في بلده ..هي كرامة أدركها، لا يشعر بها حتى يفقدها ويتجرع مرارة الوحدة والاغتراب”.

    إن جدل الساردتين عن “الهنا” و”الهناك” يطرح إشكالية التأقلم في الفضاء ومفارقة الداخل والخارج وهي إشكالية أساس أو تيمة مهمة يجسدها تقسيم الكاتب لروايته إلى جزأين: الأول تنبثق شخوطه المغتربة من داخل البلد والثاني يستوعب شخوصا يختلف تكيفها مع المكان. بين الوطن وبلاد المهجر تعيش العديد من الشخصيات واقع الغربة وتكابد ألم البحث عن الذات؛ “ريحانة” التي حلمت بأن تصير طبيبة في بلدها، تراجعت أحلامها بعد أن أخفقت في مباراة التمريض، دخلت فرنسا متسللة وحققت حلما واحدا هو توافق قامتها مع قامة زوجها هناك. “لطفي” صديق كنزة بالجامعة ركب البحر وذهب بلا عودة ولا أخبار عنه، “بوعلام” الشاب الأربعيني الدائم التسكع بحي الساردة كنزة جرب بدوره الهجرة السرية، يعود بعد خمس سنوات من الغربة ليعيش في الوطن غربة أعمق و”تتشابك في رأسه خيوط المعرفة والغضب، ينطق أحيانا من منبع الحكمة ومرات من منابع أخرى”ص21.. وليس “زهير” الذي خطب “نوال” أقل اغترابا من هؤلاء، فإثر عودته إلى باريس بدأ يراجع نفسه حول أمر الخطوبة، قلص من اتصالاته بخطيبته إلى أن قطعها، دون مبرر واضح، وقد عبر عن ضياعه بقوله” كل شيء تبدل في البلد ولا شيء بقي على حاله، أحس بغربتي تكبر هنا أكثر من باريس” ص 76 ،، ويغدو “العياشي” نموذجا للاغتراب داخل الوطن بعدما تجرع لأربعين عاما مرارته خارجا، تقول عنه كنزة بص77″ بقي العياشي متشبثا بصورة البلد المنحوتة في ذهنه، يخاف عليها من الضياع لأن فيه ضياعه الثاني والنصف المتبقي”، إنه الشخصية المكتوية بنار الحنين إلى الوطن ولكنه يصطدم بعد عودته النهائية بواقع مغاير في البلد، العياشي يمثل بهذا الجيل الأول من المهاجرين الذي تقول عنه أم نوال “ذاك جيل معذور يا بناتي، جيل تمحن في غربته” وتختزل تأسيها  وشعور زوجات هؤلاء بالفقدان بموال شعبي بليغ ” جاء في الليل، مشى في الليل كالمنام ما عقلت عليه” ص 79 .غير أن للشاب “عزوز” حارس ضيعة عمي العياشي والذي لم يهاجر بعد، رأي آخر: “لماذا لا أتغرب في فرنسا لعلي أفتح باب الرزق وأجمع مالا،،،أمي موجودة في قرية لا ماء فيها ولا كهرباء، قرية يلبس فيها الفقر الجوارب والحذاء العسكري”ص33 وتعضد” ياسمينة” هذا الرأي بقولها” الغربة هي الحكرة، هي أن تبقي بلا عمل تبحثين عن رجل كمحطة إنقاذ” ص92

    ليس اعتباطا إذن أن يجعل الكاتب من ملفوظ التوحيدي عتبة لنصه الروائي، لأن الغربة في هذا السياق هي غربة الذات في فضاء تجذرت به كينونتها وحوى لحظة الميلاد ومراحل النشأة الأولى، وحين ترتد “كنزة” في مستهل الحكي إلى دواخلها باحثة عن صورتها في المرآة “أتفحص من أين تبدأ التجاعيد ويترهل الجلد، تائهة لا أعرف كيف يبدأ يومي”ص12  فلكي تفشي أسرارا عن الزمن وعن المكان الذي تنغلق داخله ذاتها، صعبة هي البدايات، بداية الحكي وبداية الحفر في أغوار المكان ،،، تتجشم “كنزة” عناء تحمل الفراغ وعناء سرده، الفراغ الكامن بداخلها وذاك المعربد بالخارج؛ بالمدينة وبالزقاق، تبدأ كنزة السرد من مآسي الفقر في المكان، من جحافل المياومين في مزارع الفلاحين الكبار والعاملين في أوراش البناء، من بعض المتسولين الوافدين على الزقاق والذين صاروا مع الوقت كأنهم منه، يبدأ السرد من سخط “المرتضي” الحوذي الذي يلهب ظهر بغله بالسوط، ويبدأ من الحركة البطيئة  والاستيقاظ المتأخر لأهل المدينة ومقاهيها التي يكثف الكاتب من بعدها الدال على الضياع في هذا الملفوظ “هي كمطاحن الوقت والاعمار، أيدي الملتفين على موائدها تقبض على الفراغ، والألسنة تزايد في بورصة القيل والقال”ص12 ،،،

    يشكل الزقاق في الجزء الأول من الرواية الخلفية المكانية التي يتشكل عبرها النسيج السردي في علاقته بالشخصيات والذي تراهن الكتابة السردية على أبعاده الدلالية. إنه الفضاء الأكثر انفتاحا وأقل  انغلاقا قياسا إلى بيت الساردة، مما يؤهل القارئ للانفتاح على سكانه والوافدين عليه، إنه مكان سوقي خصب نكتشف جوانيته  عبر ما تنسجه الساردة من علاقات بينه وبين الملتحمين بجنباته.

    من اللافت أن يجعل الروائي من الأصوات داخل هذا المكان مركز جاذبية سردية إذ يلج القارئ فضاء الرواية عبر الأصوات؛ أصوات ساكني الزقاق، والساردة لا تنفك عن الوصف، بل تعطل السرد لتفسح المجال فسيحا للأصوات، وهي أصوات اكتشاف فضاء يستيقظ  رواده صبحا، لاوجود للزقاق دون هاته الأصوات “تستوقفني أصوات بعض المتسولين الوافدين على الزقاق، تصل إلى مسامعي وأنا في فراشي  كنا نميز بين أصحابها من خلال نداءاتهم و حركاتهم” ص14… الحركة التي تتسارع وتيرتها مع عربات المتسوقين وتبلغ أوجها حين يبدأ الاستعداد لإعداد الغذاء، تبدأ في الزقاق وتمتد إلى البيت ، حركة من الخارج في اتجاه الداخل ، غير أنها حركة متعثرة يسكنها العجز، الأم تجر قدميها وتتحرك فقط لتخفف من آلام الروماتيزم، وداخل فضاء البيت تكون كنزة شاردة صامتة أغلب الوقت ، وهذا الفضاء بالرغم من انغلاقه فإنه يشعر بالسكينة خاصة وأن أم كنزة تبتعد عن المواضيع المثيرة للقلق داعية عقب كل صلاة لابنتها بانفراج غمتها .

   نقف في الرواية على الكثير من الفضاءات المغلقة والمنفرة كفضاء المكتبة المهجورة ” كقبر غريب لا يزار، أجلس لأعيد علاقتي بالكتاب، يصيبني الدوار، أغلق الكتاب وأعود للمنزل توا”ص27. ولأن المدينة هي خلفية الفضاء الروائي في “بنات الخريف”، فإن الحكي يتأسس من خلال ما يؤثثها من مبان كثيرة زحفت على المساحات الخضراء وطمست  جماليتها، ومن خلال الزحام الذي تعرفه خاصة في فصل الصيف حيث تصير منبهات السيارات لغة الغضب والاحتجاج، و”يصير القلق في الهواء، في الطبيعة، في أماكن الراحة والهدوء”ص24 مما يولد في نفس الساردة الاحساس بالضيق ويقيم نوعا من القطيعة بينها وبين عالم الخارج/خارج الزقاق. “عمي العياشي” يضيق به منزله بعد الاصلاحات التي أقامها أبناؤه “غيروا التصميم ليصير المنزل حديثا، فأكثروا من الغرف التي أكلت الحوش الواسع، ضاقت الأمكنة التي كانت تسكن قلبه، كلما تذكر الحوش الواسع تذكر شجرة التين؛ جلساتها وظلالها صيفا، تذكر الكرمة وعناقيد العنب المتدلية بها”ص80، ويمثل سطح المنزل المنفتح على السماء مكان ارتياح له،،، بهذا تسهم الرواية في بناء فضائها الخاص ومنحه ابعاده الدلالية مستعينة بالإيحاء بثنائية المكان الضدية: الانغلاق والانفتاح؛ فالمكان المنغلق مكان منفر ومغيب للذات، يمارس تأثيره السلبي على الشخصية ويقيد حريتها.” صفاء” داخل غرفتها المتناهية في ضيقها بباريس تزورها الكوابيس “لاح الظلام في باريس وأحكم قبضته على غرفتي…بدأ سباق الصراصير على جدران الغرفة، تعيد سباقاتها كلما سكنت للراحة وأطفأت النور…اجتاحني النوم فغفوت …تكبر الحجرة وتضيق، تكبر الصراصير وتصغر،،، أجدني وسط قاعة الحفلات، صراصير أم أناس مسخوا على هيئات صراصير، ألبسوني خرقة صرصور..” ص 139، في مثل هذا الفضاء تشعر الذات بالفقدان وتنسلخ عن هويتها،،،ومع ذلك فإن هذا المكان يصير ملاذا مؤقتا ومكانا آمنا تحتمي فيه الساردة من وحشة الخارج “أسكن إليها، قلبها يتسع، يحفظني من التشرد الذي يهددني كلما فقد العمل” ص207… ويشكل ميترو باريس لعمي العياشي متاهة وكابوسا مرعبا ” كلما تغير مكان الورش بات ليلته حائرا مغتما، يفكر كيف سيهتدي للعنوان الجديد، يسعى في كل مرة أن يبتكر دليلا يستأنس به ليخف هوس التنقل شيئا فشيئا”ص85.

   تصير باريس في أذهان المهاجرين العرب فضاء صغيرا هو المقهى، إنه المكان الذي تتشكل بفضائه شبكة من العلاقات ويتسع ليمتد إلى حدود العالم الخارجي الذي يأتي منه الزبائن، إنه مكان مرجعي لشخصيات تتباين أحلامها وذكرياتها واهتماماتها ولكنها تتوحد في غربتها ،،، في هذا المكان نتعرف على “بوغفالة “و”أمقران”، على” ليندا” وعمي” سعدان” و”جمال السياسة” و”المكي” رشام المجموعة  و”ميمون بوركزة” وغيرهم ممن “تعلقوا بالمقهى وفرجته، أصبح بيتهم الثاني، يجلسون فيه أكثر من جلوسهم في المنزل، يطوفون به مرارا كأنهم يتفقدون أحواله، هل مازال قائما في مكانه” ص161،،،إن المكان هنا لا يقاس بضيقه أو اتساعه بقدر ما يقاس بمدى ايحائيته ورمزيته ، إنه الفضاء لأنه يتشكل وفق تموقع الذات ويرتبط بهواجسها وطموحاتها وبانكساراتها أكثر من ارتباطه بموقع خارجي، وهكذا فإن هذا المكان نفسه الذي يجتمع به المهاجرون يتأسون فيه عن غربتهم، يتبدى ل”صفاء” مكانا مقيتا فرضت الظروف القهرية التواجد بين جدرانه وتحت سقفه خاصة وأن “بوغوفالة” يمارس فيه ضغوطا عليها، فهو الناعت لها ب” البلدية” وهو الذي كتب على باب مرحاض النساء ” لتحيا “ليندا” ولتمت من جاءت بعدها”. من هنا يتحول المكان في الرواية إلى نسق رمزي يخرج من محدوديته ليصير مبنيا على تفاعل الذاتي بالموضوعي، وحين يتحدث الكاتب بإسهاب عن المقهى في بلاد الغربة فليؤكد حضوره ويعكس العلاقات المتداخلة بين شخصياته، وكثيرا ما لا يكون المكان محايدا في العمل السردي الذي ينبني على مفارقات دلالية عميقة : الوطن/الغربة، البقاء/ الرحيل، الوفاء/الخيانة، الأنا/ الآخر، الخوف/الاطمئنان، و”صفاء” التي لا تجد ذاتها في مدينة الأنوار تعيش على ذكرى المكان في الوطن “أتلذذ بعشب حقلنا بعدما أعدت اكتشافه في بلاد الغربة، صرت أعظمه أكثر وأكثر، أعظم أماكن تسكنني وأسكنها، أبتسم لها وتبتسم لي، وحين يشتد الشوق تطوي الزمان والمكان، وتأتي زائرة أو تحلق روحي فيها، تجدد الوصل وتخفف الظمأ” ص113  إنه نداء الأمكنة للأرواح المغتربة الحالمة بالوصل والدفء، والتواقة إلى الالتحام بتربة البلد.

   ما يمكن أن نخلص إليه من خلال مقاربة رواية “بنات الخريف” هو أن المكان يخلق المعنى وينتج الدلالة؛ تتحدد أبعاده من خلال حركة الشخوص وإحساسها بالحرية ولا يمكن إدراكه إلا في علاقته بذكرياتها وتباين أزمنتها، إنه يتأسس من خلال علاقته ببقية المكونات السردية وخاصة بالزمن؛ فالغربة التي تكابدها الشخصيات ليست غربة في المكان فقط ولكنها غربة في العمق، في الوجدان وفي الذاكرة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

4 × 1 =

زر الذهاب إلى الأعلى
MCG24

مجانى
عرض