ثقافة

ذكريات ملحمة الاستقلال في أسفي

 ذ. منير البصكري الفيلالي

    إن أمجاد المغرب ومآثره العظمى ، وملاحم أبنائه الكبرى ، كثيرة لا حصر لها ، في طليعتها ملحمة الاستقلال ، إلى جانب ملحمة المسيرة الخضراء . فهذه الأمجاد هي كنز لا يقل أهمية عن باقي الكنوز التي تختزنها  بلادنا من ثروات بشرية ومعادن وثروات طبيعية .
صحيح أن الثقافة التاريخية لدى الشعوب عامة ، لا تتداول في بورصة القيم أو سوق الأسهم ، لكنها هي المحرك الأكبر للشعوب . لذلك  نرى من الواجب الوطني اهتبال فرصة إحياء ذكرى عودة بطل التحرير والاستقلال جلالة المغفور له محمد الخامس من المنفى ، والإعلان عن  استقلال المغرب . فخلال هذه الذكرى ، سنسعى لإبراز أبعادها ودلالاتها الوطنية الكبيرة ، وقيمها النبيلة في ترسيخ ثقافة الوطنية والمواطنة الإيجابية .
لذلك ، ما أكثر المناسبات الوطنية التي تستوجب منا الوقوف عندها لمراجعة وقائعها بقصد استلهام ما يجب استلهامه . وقديما سمعنا : ” إن الأمة التي تجهل تاريخها ، محكوم عليها بتكرار أخطائها . ”
وبالعودة إلى الوراء ، نجد أن علماء نا المغاربة قد أرخوا للبلدان ، وأرخوا للرجال .. فبين أيدينا اليوم أكثر من تأليف في تواريخ مدن فاس ومراكش ومكناس وتطوان وأسفي والرباط وطنجة والصويرة .. من ذلك مثلا : كتاب : جذوة الاقتباس ـ بيوتات فاس ـ سلوة الأنفاس ـ الإعلام بمن حل مراكش وأغمات من الأعلام ـ الروض الهتون في أخبار مكناسة الزيتون ـ إتحاف أعلام الناس بحاضرة مكناس ـ إظهار الكمال في مناقب سبعة رجال ـ الاغتباط بتراجم أهل الرباط ـ الإتحاف الوجيز ـ عمدة الراوين وتاريخ تطوان ـ أسفي وما إليه ـ جواهر الكمال في تراجم الرجال ـ إيقاظ السريرة في تاريخ الصويرة ـ سوس العالمة …
ومعلوم تاريخيا أن مدينة أسفي كباقي المدن المغربية الأخرى ، قد عرفت عبر التاريخ بالكثير من الأحداث ، إذ لا ينكر أحد أنها كانت دائما حاضرة بقوة وعمق في التاريخ المغربي ، بل وفي التاريخ الدولي منذ الاحتلال البرتغالي للمدينة .
وفي مطلع القرن العشرين ، وعقب الاحتلال الفرنسي للمغرب ، عرفت أسفي أحداثا شهدت لأهل هذه المدينة بالبطولة والشجاعة والجرأة في مواجهة المحتل الغاشم . وبظهور الظهير البربري في 16 مايو 1930 ،  تشكلت حركات سياسية دينية ، تستهدف الرد المناسب على جرائم المستعمر الفرنسي في المدينة ، مما يكشف عن الصمود والنضال من أجل تحقيق الكرامة والحرية والاستقلال . وعلى إثر الظهير البربري ، حل بمدينة أسفي وطنيان كبيران من مدينة سلا هما : سعيد حجي والصديق بلعربي ، وهدفهما تحفيز المواطنين على المزيد من الصمود أمام المحتل الفرنسي والخروج للشوارع من أجل الاحتجاج على الظهير البربري بقراءة ” اللطيف ” والجهر به في وجه المستعمر . وهكذا أصبحت مدينة أسفي بمواقفها الوطنية ، ومواطنتها الحقة ، إزاء الظهير البربري ، معقلا وازنا للوطنية الصادقة.  وسيعرف هذا الإحساس الوطني تأجيجا قويا حين نفي السلطان محمد الخامس إلى جزيرة كورسيكا ومنها إلى مدغشقر . فهذا الحدث الأكبر أيقظ أهل أسفي ، وألهب حماسهم الوطني وأذكى في نفوسهم الآمال ، وأحيى في قلوبهم ذكريات الجهاد .. فانخرطوا في العمل الوطني المنظم . وهكذا توجهت عناية الناس بأخبار ما يجري ويدور . ويروى أنه بمجرد ما علم سكان أسفي ، شأنهم في ذلك شأن باقي ربوع المملكة ، بنفي السلطان محمد الخامس  هب هؤلاء لملاقاة العلماء لتقديم قسم الإخلاص والوفاء .. ذلك أن الانخراط في العمل الوطني كان يتم بأداء القسم .
وتأسيسا على ما سبق ، بدأ العصيان لأوامر المستعمر ينتشر بين الناس ، مما أدى إلى زوال هيبة هذا المحتل الغاشم . وبعد أيام قليلة فقط ، ترد الأخبار إلى أسفي عن المفاوضات وعن قرب حصول المغرب على الاستقلال .. ومع ذلك ، استمر سكان المدينة في مواجهتهم للمخططات الاستعمارية ، وفي طليعتهم شباب المدينة من التلاميذ وطلبة العلم ، نذكر من بينهم :
ـ  محمد بن الطيب الوزاني الذي انخرط في جمعية طلابية شبه سرية ، وصار من أنشط أعضائها .
ـ امحمد بنهيمة العلج ، وتفيد بعض رسائله أن المناضل الوطني علال الفاسي ، كان يعقد اجتماعات ببيته بفاس يوم كان طالبا بجامعة القرويين ، فكان الطالب العلج واحدا من أعضاء الجمعية الثقافية التي أسسها طلبة القرويين آنذاك .
ـ محمد بلخضير الذي انخرط ضمن الخلايا الطلابية وهو ما يزال تلميذا بثانوية مولاي يوسف بالرباط .
وهذا النشاط النضالي لهؤلاء وغيرهم من شباب المدينة ، ولد تفاعلا إيجابيا ساهم في بعث الوعي الديني والسياسي لدى الأسفيين بغية مواجهة كل ما كان يتعرض له وطنهم من أحداث ويصيبه من خطوب ، مما جعل المدينة قلعة وطنية قوية ، وملتقى لعدد من زعماء الحركة الوطنية للتداول حول آليات الحصول على الاستقلال . وهكذا ، أسس علماء أسفي حركة سرية دينية إصلاحية ووطنية ضمت من الأسماء : محمد بن الطيب البوعمراني ـ أحمد البوعمراني ـ محمد علان ـ عبد السلام المستاري ـ محمد بن الطالب ـ محمد بلكاهية ـ مولاي محمد البوعناني ومحمد الهسكوري وأحمد بن محمد الكانوني وادريس بناصر ومحمد بن الطيب الوزاني .. فقد كانت لهذه الفئة من مواطني أسفي أفكار جديدة ووعي وطني مستنير ، فكانوا يشكلون حركة نضال وطنية عملت على مستويات عدة ، سياسية وفكرية واجتماعية وشبابية ورياضية ، مرجعها آنذاك ، دور محمد الخامس وكفاحه ودعمه لعمل الحركة الوطنية المغربية .
لا ننسى كذلك أن نذكر أن شباب مدينة أسفي كانوا في طليعة المناضلين ضد الاحتلال الفرنسي ، ومن هؤلاء الشباب الذين انخرطوا في العمل الوطني بإرادة وطموح : محمد بنهيمة ومحمد الشقوري ومحمد بن الشيخ المشهور باسم ” الثقافة ” ومحمد الفيلالي البصكري و محمد امجيد  وغير هؤلاء .. فقد أظهر الشباب الأسفي حماسا منقطع النظير للحيلولة دون أن يستمر الوطن تحت نير الاستعمار .
وهكذا ، يروى أن المغفور له محمد الخامس كان قد زار مدينة أسفي ، فوجد أن أهلها مشبعون بالعمق الوطني والارتباط القوي برمز الكفاح الوطني ، الملك محمد الخامس رحمه الله . ومن بين ما تحتفظ به الذاكرة الوطنية بأسفي ، أن مدير ثانوية مولاي يوسف الفرنسي ، طلب من التلاميذ المصطفين بساحة المدرسة ، التزام الصمت والهدوء عند رؤية الملك محمد الخامس ، محذرا إياهم من التفوه بأي نشيد وطني . وقد استعان المدير بأحد الأساتذة المغاربة ” المسيو مولاي ” واسمه الحقيقي ، امحمد كزوز . وما إن أطل الملك محمد الخامس ، حتى رفع مسيو مولاي صوته بنشيد : يا ملك المغرب ، ثم تبعه التلاميذ مرددين النشيد في حماس واندفاع .
ويروى كذلك أن بعض الشباب كانوا يهيئون لافتة مكتوب عليها : يحيا الملك ، يحيا المغرب .. وذلك دائما أثناء الزيارة الملكية للمدينة ، فاهتبلوا هذه الفرصة لينشروها بعد مغادرة جلالته لثانوية مولاي يوسف . وهناك الكثير من مثل هذه الأخبار الوطنية التي تفيد بأن أهل أسفي إبان الحماية  قدموا ملحمة الاستقلال من خلال نضالهم وكفاحهم واستماتتهم ووطنيتهم الصادقة .
ومن ثمة ، قام بعض الوطنيين من أهل أسفي ، كعبد السلام امجيد ومحمد بنهيمة ومحمد الشقوري وعلال قنبوع  بالتحريض على مقارعة الاستعمار ، وذلك بتنفيذ عمليات فدائية ضد رموزه ومصالحه وأعوانه . ومن ثمة ، احتضنت أسفي مجموعة من المنظمات الفدائية  اشتهرت منها منظمة ” أسود التحرير ” التي أسسها مولاي الطيب النقراشي ولحسن تاغجست ، ومنظمة ” المقاومة والتحرير ” التي أسسها عبد الرحمن الكتاني وعلال بن ركيك ،  ومنظمة ” اليد المباركة ” التي أسسها الحبيب فايضي ، ومنظمة “المقاومة السرية”التي أسسها محمد بن هدي الرضاوي المعروف ب : بابا . وبعد نفي السلطان محمد الخامس في عشرين غشت 1953 ، لم يقف الوطنيون عند حدود التحريض على المقاومة والمشاركة في العمليات الفدائية ، بل بدأوا ينهجون أسلوبا نضاليا آخر من قبيل الإضرابات والعرائض والمظاهرات ، فشكل ذلك مدا وطنيا جارفا ورافضا الوجود الاستعماري وسلطة الحماية . وهكذا استمر الوضع ملتهبا على هذا النحو .
ولعل أحداث تقديم وثيقة الاستقلال ، تعتبر نقطة تحول في مسيرة الكفاح الوطني .. وهي تؤكد بما لا يدع مجالا للشك ، أن إحراز الاستقلال تقرر يوم هذا التقديم .. وتؤكد كذلك أن الموقف الذي بيته الاستعمار ضد العرش والذي نفذ يوم 20 غشت 1953 ، تحدد يوم حث الملك المجاهد محمد الخامس على المطالبة بالاستقلال في يناير 1944 . وإذا كانت أسفي قد تشرفت باحتضان هذه الأحداث ، فإن شرفها يزيد بما سبقت إلى تسطيره في سجل الحرية بدماء أبنائها البررة . ومدينة أسفي تعتز بأن تكون رائدة في العمل الوطني ، بدءا من بوادر الحركة الوطنية الأولى ، إلى المقاومة الفدائية التي جسمت ثورة الملك والشعب . وقد توج العمل الوطني في أسفي بتوقيع ثلاثة من أبنائها على العريضة الرسمية المطالبة بالاستقلال ، وهو حدث عظيم ومكرمة وطنية أسفية بامتياز . وهكذا وقع كل من محمد البوعمراني وعبد السلام المستاري وامحمد بلخضير على العريضة المذكورة ، وكاد أن يضاف إليهم الفقيه محمد الهسكوري لولا منعه من قبل بعض الوطنيين الذين آثروا أن يجندوه في جبهة أخرى.
وتوقيع هذه الفئة من رجالات أسفي على العريضة ، مفخرة وطنية كبرى لشباب مدينة أسفي اليوم ينبغي الاعتزاز بها ، بل إن سكان المدينة  أقبلوا جميعهم وبكثافة وحماس منقطع النظير على توقيع عرائض شعبية مؤيدة للعريضة الرسمية ، معبرة عن دعمهم لمطلب الاستقلال على الرغم مما جرته هذه العملية من مضايقات واعتقالات همت الوطنيين في أسفي من أمثال : الفقيه عبد السلام المستاري والفقيه ادريس بناصر وعبد الرحمان بن الشيخ وزين العابدين الوزاني وغيرهم ..
إضافة إلى ما سبق ، لا يجب أن ننسى الدور الملحمي الكبير الذي قام به الرياضيون في أسفي ، مما يدل على نمو الوعي الوطني عند هؤلاء الرياضيين بأسفي الذين أدركوا جيدا الأخطار المحدقة بالوطن . وهكذا ، فقد أسست الحركة الوطنية في أسفي عددا من فرق الأحياء ، منها فريق الأمل للبحارة . فمثلا خلال أحداث دار الباشا سنة 1952 ، شارك جل الرياضيين الآسفيين الذين يشتغلون في الميناء ، وشلت حركة هذا المرفأ البحري الحيوي ، وتوقف عن العمل .. بل إن الفريق البحري لم يجر أي مقابلة رياضية ردا على غطرسة المستعمر . وهناك أسماء رياضية بارزة في المدينة ، واجهت المستعمر الفرنسي ، نذكر منهم ، محمد البوعناني الذي انضم إلى الحركة الوطنية سنة 1950 ، حيث ربط بين النشاط الرياضي والعمل الوطني ، أيضا ، لا ننسى محمد امجيد أول من نادى جهارا بأسفي في وجه الاستعمار : يحيا الملك . نذكر كذلك ، عبد السلام بن حنة المعروف ب ” بيي ” الذي أصبح فيما بعد عميدا للمنتخب الوطني ، حيث جمع هو الآخر بين النشاط الرياضي والعمل الوطني .. واللائحة طويلة نذكر فقط بعض الأسماء الرياضية التي ما يزال الشارع الرياضي بأسفي يتذكر مواقفها من أمثال : السكياطي وبلعربي والوافي وعبد السلام اعبيد ومصطفى تولة وجلول مولاي الطاهر وبدر الدين وبنعمر عزيز ومحمد الشهيد .
ولعل ما أشرنا إليه ، لا يعدو أن يكون نقطة من بحر ، حيث الغرض يكمن في صياغة الذاكرة التاريخية الوطنية والتعريف بفصول ملحمة الاستقلال بمعانيها ودلالاتها والاعتزاز بالانتماء الوطني وبالهوية المغربية ، عملا بالتوجيهات الملكية السامية الداعية إلى صيانة وتوثيق الذاكرة التاريخية الوطنية والعناية برموزها وأقطابها وإبراز أمجاد وملاحم الكفاح الوطني وما يختزنه تراثنا الحضاري من أمجاد ومكارم ، تجسد الرصيد النضالي المحلي والوطني ، وذلك لمواصلة مسيرات الحاضر والمستقبل من أجل بناء واعتلاء صروح مغرب الحداثة والديموقراطية والتضامن والتنمية الشاملة والمستدامة والمندمجة .
إن واجب الذاكرة الوطنية ، يدفعنا لإيلاء العناية الكاملة لرصيدها وتراثها الطافح بالملاحم والبطولات ، والزاخر بالعبر والعظات والقيم الأخلاقية والإنسانية التي تشكل مكونا أساسيا من الرأسمال اللامادي ، الروحي والمعنوي الذي هو جزء من الثروة الوطنية التي بناها وصانها وضحى من أجلها الإنسان المغربي على امتداد تاريخه وحضارته .

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

2 + ثلاثة عشر =

زر الذهاب إلى الأعلى
MCG24

مجانى
عرض