سياسة

 الرؤية الثقافية في فكر جلالة الملك محمد السادس

إعداد : د. منير البصكري الفيلالي / أسفي

من المعلوم أن المجتمع الثقافي ، يعد رمز التقدم والتطور الثقافي ، وذلك من خلال الحرص على التعريف بكل ألوان الفن والتراث ، وكذا تعزيز مشاركة ذلك المجتمع في ثقافة الحوار المفتوح . وهذا ما حرص عليه جلالة الملك محمد السادس نصره الله في مختلف خطبه ، مبرزا أهمية الفعل الثقافي في ظل التحديات الجديدة وفي عصر العولمة والتقنيات الحديثة التي باتت تفرض نفسها على الحياة المعاصرة ، اقتصاديا وسياسيا وثقافيا وفكريا وعلميا وإعلاميا .

نلاحظ أن هذه الرؤية الثقافية التي نادى بها العاهل المغربي ، أخذت مكانتها مستهدفة تعزيز حرية الحراك الثقافي والعمل على تخليصه من التبعية حتى تصبح ثقافة فعل وعمل وتغيير وبناء ، تحمل قيم الإبداع بغية خلق جيل قادم قادر على اتخاذ خطوات فاعلة نحو التميز الفكري والثقافي والعلمي والأدبي .. مما سينعكس إيجابا على مستقبل الثقافة ببلادنا ، حتى تصبح مؤسساتنا الثقافية منابر إشعاع ترتكز عليها ثقافتنا الوطنية بكل ملامحها ومجالاتها وتطلعاتها بما يخدم الرؤية الشاملة للثقافة ، وهو طموح ما فتئ يعبر عنه جلالة الملك محمد السادس منذ اعتلائه العرش العلوي المجيد .

ولعل المتتبع لخطب جلالة الملك ، سيدرك ـ لا محالة ـ إشارات وأبعاد ذلك وغاياته ، والبعد الثقافي المؤثر في مجتمعنا من خلال منظومة المؤسسات العلمية والثقافية المتنوعة والمتمثلة في إحداث العديد من المراكز العلمية والثقافية وأهمية دعمها ، إضافة إلى التوجهات العامة في عهده حفظه الله في تقوية بنية التعليم في كل أنحاء مملكتنا السعيدة ، وكذا إعطاء الأهمية للتخصصات المختلفة في مجال البحث العلمي ، والحرص على تعليم اللغة العربية لأبناء الجالية المغربية في الخارج ، إلى جانب دعم العمل التربوي والثقافي والعلمي من خلال مشاركة المغرب برعاية جلالة الملك في كل المنظمات الدولية في مجالات التربية والثقافة والعلوم .. مما يبرز الوعي الكامل بأن بلادنا ـ ولله الحمد ـ لها وزنها ودورها المؤثر في محيطها العربي والإسلامي والدولي .

إن تأكيد هذه الرؤية الثقافية لجلالة الملك ، تمثل ركنا أساسيا في هذا الوعي المتبصر ، كما تنطلق من قوة المملكة المغربية النابعة من وحدة أقاليمها ومن استقرار الحياة بها . ومن ثمة ، جاءت هذه الرؤية حاملة نظرة استراتيجية شاملة ، مستهدفة في الآن نفسه كل المجالات نحو التطور وتحقيق نهضة تنموية متكاملة وراقية ، مما ينبئ بمستقبل مشرق وزاهر . لذلك ، فإن هذه الرؤية الثقافية لجلالة الملك تأتي انعكاسا للرؤية العامة وأهدافها التنموية ، بما للثقافة من أهمية في حياة الأمم والشعوب ، فهي العامل المشترك لكل نشاط وعمل إبداعي وإنساني وحضاري ، ينطلق أساسا من خلال استراتيجية هادفة لها غايات وأهداف ، تتطلع إلى الارتقاء بالوعي الثقافي والمجتمعي ، كما ترنو إلى تعزيز الهوية الوطنية بغية بناء شخصية مثقفة ومبدعة ومتوازنة .

لقد شهد المغرب ـ على حد قول أحد المسؤولين عن العمل الثقافي ببلادنا ـ ، خلال حكم جلالة الملك محمد السادس ، “تحولا ملحوظا” دفع بالبلاد نحو مدارات التميز في جميع المجالات ، بما في ذلك مجال المتاحف قائلا : إن المتاحف خطت الآن “خطوة جديدة” تميزت بالرغبة في ترسيخ نفسها في كل مدينة وجهة في المملكة ، للسماح للمغاربة باكتشاف تراثهم الغني وتملكه ، مبرزا أن المتاحف فتحت أبوابها في كل مكان تقريبا، في طنجة، تطوان ومراكش والرباط وآسفي ومكناس وأكادير وأزيلال، على أن يرى غيرها النور في مدن أخرى عبر المغرب ، مشددا على أن المؤسسة الوطنية للمتاحف، وبناء على رؤية تتجه بعزم نحو المستقبل، وبتوجيهات ملكية سامية، تستعد لعبور “آفاق جديدة”.. وتطمح لمواصلة مهامها في الترويج للتراث الثقافي المغربي . واستلهاما لمضمون خطاب جلالة الملك في القمة الثامنة والعشرين للاتحاد الأفريقي والدينامية الوطنية الملتزمة بالتنمية القارية، فإن “المغرب كبوابة إفريقيا ، سينظيم العديد من المعارض مثل “إفريقيا في العاصمة”، و “أنوار أفريقيا”، و”إفريقيا بعيون مصوريها..من مالك سيديبي إلى اليوم” و “فن بنين بين الأمس واليوم”، وكلها ستساهم في التعريف بالإبداع النابض بالحياة المعاصرة لقارة بأكملها .. من أجل فهم ثرائها الثقافي بشكل أفضل.

كذلك ، لم يفت جلالة الملك مسألة تثمين الهوية الثقافية الحسانية انسجاما مع دستور المملكة الذي يدعو في فصله السادس إلى صيانة الثقافة الحسانية، كما يأتي تنزيلا للرؤية الملكية السامية التي تولي اهتماما كبيرا للبرامج والمشاريع التنموية بالأقاليم الجنوبية المندرجة في إطار تثمين الهوية الثقافية الحسانية وتعزيز سبل التعاون جنوب – جنوب والانفتاح الثقافي على إفريقيا، وتفعيلا لمقتضيات القانون الإطار 51/17 المتعلق بمنظومة التربية والتكوين، وفي إطار تنزيل المشروع رقم 08، خاصة الشق المتعلق بالإدماج الفعلي للثقافة بالمدرسة المغربية .

لا ننسى كذلك ، عناية صاحب الجلالة بفن الملحون كتراث وعلامة بارزة في تاريخ الثقافة الشعبية المغربية الأصيلة ، إذ ما فتئ صاحب الجلالة محمد السادس أعز الله أمره ، يلفت النظر إلى قيمة الملحون وأهميته وضرورة العناية به ، لما يمثله من مظاهر حضارية وثقافية هي جزء مكون لهويتنا الوطنية . وفي هذا السياق ، نذكر أن صاحب الجلالة قد كلف الأكاديمية بإصدار ” أنطولوجيا ” للملحون ، أي مختارات من القصائد يسجلها بالأداء الغنائي منشدون ومنشدات وفق المعايير الشعرية الصحيحة ، والمقاييس الموسيقية السليمة . وما يقال عن الملحون ، ينسحب أيضا على طرب الآلة أو ما يسمى بالموسيقى الأندلسية .. فإلى صاحب الجلالة محمد السادس نصره الله ، يعود الفضل إلى العناية بهذا التراث الأصيل بعد أن تولاه والده صاحب الجلالة الحسن الثاني تغمده الله بواسع رحمته ومغفرته ، إذ في عهده تم إصدار كناش الحايك بعد مراجعته وتقديمه على يد أستاذنا الجليل ، عميد الأدب المغربي الدكتور عباس الجراري أطال الله في عمره .

هكذا يبدو كيف انصرفت جهود ملكنا الهمام أدام الله عزه ونصره في النهوض بالثقافة وتقوية انخراطها في جهود التنمية والتحديث ، فكان ذلك ، يمثل أولوية يتم إدراجها ضمن مقاربة مندمجة تقوم على جعل السياسة الثقافية والفنية دعامة لتعزيز الهوية الوطنية وأيضا تعزيز الانفتاح على الثقافات والحضارات .. حتى تكون هذه الرؤية الثقافية في المنظور الفكري لجلالة الملك مدخلا ضروريا لتحصين وصيانة مختلف التعبيرات الثقافية المغربية الأخرى كدعم الأمازيغية لغة وثقافة ، والعناية بالمآثر التاريخية وجعلها فضاءات قابلة لاستقبال وعرض المنتوج الثقافي والفني، والسعي إلى ترتيب وتصنيف أهم الآثار والمواقع التاريخية لتحتل المكانة اللائقة بها في التراث الإنساني ، والمساهمة في خلق اقتصاد ثقافي وإرساء دعامات للصناعات الثقافية الخالقة، وبلورة أولويات الإستراتيجية الثقافية للمغرب الثقافي ، مما سيجعل من الشأن الثقافي هاجسا يوميا ، وذلك من خلال توسيع شبكة الفضاءات والأنشطة الثقافية وتقريبها من القرى والمناطق النائية، والسعي إلى جعل الثقافة فعلا يوميا مندمجا في حياة المواطنات والمواطنين .. إلى جانب تنشيط الديبلوماسية الثقافية الذي يتطلب ربط الصلة بالمغاربة المقيمين بالخارج وتقوية علاقاتهم بالثقافة المغربية، وتقوية التعريف بالمنتوج الثقافي والفني المغربي ونشره على الصعيد العالمي، وتمتين أواصر الحوار والصداقة مع الدول الشقيقة والصديقة . ودائما في سياق الرؤية الثقافية لجلالة الملك ، لا ننسى كذلك إعطاء الانطلاقة لأشغال المؤسسات الملكية التي تم افتتاحها أو إعطاء أشغال انطلاقتها مثل المسرحين الكبيرين بالرباط والدار البيضاء

وتلك التي في طور الإنجاز . هذا فضلا عن الأنشطة الثقافية والفنية التي تجد عناية خاصة ودعما موصولا من طرف جلالة الملك محمد السادس على حد ما نذكره عن المكتبة الوطنية ومعرض الكتاب والفنون التشكيلية ، مما يجعل الرؤية الثقافية لجلالته تسير جنبا إلى جنب مع الفعل الثقافي ، وتجعل المجتمع الثقافي المغربي شاهدا على بصيرة ملكنا الهمام أدام الله عزه ونصره ، وهو منجز أكثر فاعلية وحيوية .

 

 

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

خمسة × 2 =

زر الذهاب إلى الأعلى
MCG24

مجانى
عرض