ثقافة

التراث الثقافي للمدينة العتيقة بأسفي يستغيث، فهل من مغيث؟

إعداد : د. منير البصكري الفيلالي / أسفي

   يتداول الرأي العام في الآونة الأخيرة بمدينة آسفي الإقدام على هدم معلمة تاريخية وصرح يغري بالسفر إلى الماضي عبر الحاضر ، صممت مرافئه من الخشب الرفيع على نمط عمراني بديع ، نحتت شرفاته من خشب العود الممتاز، تكاد تملأ الحيز برمته .. بيت يزخر بألف سنة أو أكثر من الثقافة والمعرفة وآلاف السنين من التمدن والتحضر .. فيه ولد أحد الصروح الأدبية في بلادنا .. نقصد هنا الصحفي والكاتب والمفكر المغربي اليهودي الديانة ، إدموند عمران المليح . ومعلوم أن مدينة أسفي كانت هي مسقط رأسه بعدما هاجرت إليها عائلته ذات الأصول الأمازيغية من أقصى شرق جنوب المغرب ..كان ذلك يوم 30 مارس 1917 بدرب النجارة ، إذ لا يزال هذا البيت الذي ولد فيه قائما إلى اليوم على الرغم مما أصابه من اندثار . ولا يشك أحد في أن أسفي كانت دائما مطبوعة بأجواء التعايش بين الأسر المسلمة واليهودية . لذلك ، فإن اليهود في أسفي وعلى الرغم من ارتباطهم بغيرهم من يهود العالم من خلال التوراة والتلمود ، فإنهم تفاعلوا مع المحيط الحضاري الذي عاشت فيه بأسفي ، إلى حد الأخذ بكثير من أنماط الثقافة المحلية ، وما كانت تتسم به من قوة وجاذبية ، مما حدا بيهود أسفي إلى التفاعل والانخراط مع مختلف مكونات المجتمع الآسفي ، فكان التجاور في السكن والمعيش اليومي .. حيث لا وجود لما يسمى بالملاح في أسفي على غرار باقي المدن المغربية الأخرى . وهكذا استطاع الطرفان اليهودي والمسلم أن يندمجا معا ويتقاسمان سكنى منازل بعينها ويتشاركان في ممارسة شتى المهن ، أضف إلى ذلك أن مستوى انفتاح المسلمين واليهود في أسفي على المعتقدات الدينية للطرفين واشتراكهم في بعض الممارسات الطقوسية الشعبية ، ساهم إلى حد كبير في طبع العلاقات بينهما بكثير من الود والتوادد ، كما ساهم في بناء ثقافة مشتركة على الرغم من استقطاب الحضارة الغربية لغير قليل من يهود المدينة .
ومن معين هذه الثقافة المشتركة، نهل إدموند المليح، فكانت كتاباته صدى لتلك الثقافة المشبعة بروح التعايش والتساكن والتسامح .. ومن ثمة، شكل رمزا لمغرب متعدد الأطياف والديانات ، يجتمع تحت سماء الهوية التي توحدها الثقافة المشتركة.
لا بد ـ ونحن نحيي هذه الذكرى ـ أن نسجل العديد من المواقف الإيجابية في حياة هذا الرجل، منها تشبثه بمغربيته وحبه لهذا الوطن، وعداؤه للحركة الصهيونية الإسرائيلية وفضح ممارساتها العدوانية وهمجيتها، إلى جانب دفاعه عن القضية الفلسطينية، مما جعله يرفض فكرة الهجرة إلى إسرائيل جملة وتفصيلا .. بل ذهب إلى حد إدانة تهجير يهود المغرب إلى إسرائيل.
لا ننسى أيضا أن الرجل قد انخرط مبكرا في مسار الكفاح الوطني في سبيل استقلال المغرب، حيث تعرض لبطش قوى الاحتلال الفرنسي.


ولا يخفى على أحد أن إدموند عمران المليح، ابن آسفي  كان كاتبا متميزا، اشتهر بكتاباته الأدبية الرصينة ، وكلها تعبر عن ارتباطه بأصوله المغربية من أسفي إلى الصويرة إلى البيضاء إلى الرباط ، مبرزا من خلالها ظروف عيش أفراد الطائفة اليهودية المغربية ، مدينا بشدة الانسلاخ عن الجذور المغربية .. حيث ظل طوال حياته مدافعا عن الهوية المغربية.
ومعلوم أن الكثير من تلك الكتابات مع تسجيل حضور الدارجة المغربية، تحبل بغير قليل من العبارات العامية .ويكفيه ما قاله عنه صاحب الجلالة الملك محمد السادس في برقية التعزية والمواساة إلى أفراد أسرته، حيث أعرب جلالته في هذه البرقية ” لكافة أفراد عائلة الفقيد وذويه وأصدقائه ومحبيه، ولأسرته الكبيرة من مثقفين ومفكرين وأدباء، التي فقدت برحيله أحد أعلامها ، عن تعازينا الحارة ومواساتنا الصادقة في هذا المصاب الأليم. ” انتهى كلام جلالة الملك.
وهكذا نرى كيف أن إدموند عمران المليح يعد من أهم وجوه الأدب المغربي المكتوب باللغة الفرنسية، وأحد كبار المهتمين بالحركة الأدبية والفنية والثقافية في المغرب، وأيضا أحد كبار نقادها، إضافة إلى ما خلفه من إرث روحي كبير، حيث ظل وفيا للجذور والهوية المغربية المتعددة ، وقيم التسامح واحترام الآخر.
فكيف تطال اليوم أيادي الهدم لهذا البيت الذي رآى فيه إدموند عمران المليح النور، ألا يعتبر ذاكرة مكان متميزة، يجب صيانتها والحفاظ عليها وإدراجها ضمن التراث الثقافي لمدينة أسفي .. فهل من التفاتة حضارية تعيد الاعتبار لهذه التحفة المعمارية  التي تذكرنا بمنزلة عمران المليح في ثقافته وفكره. فما من أمة تعتز بذاكرتها وتحرص على أصالتها، وتطمح إلى أن يكون لتراثها الثقافي شأن، إلا وتبذل قصارى جهدها في رصد مكوناتها الحضارية التي تعتبر بمثابة الخيط الحضاري الذي ينتظم عقد الأجيال عبر القرون. ذلك أن تراث الأمة الثقافي هو الروح الذي تعيش به والسمة التي تميزه والوجه الذي تطل به على العالم. فالعناية إذن بهذا التراث ظاهرة حضارية تدل على مستوى وعي الأمة ورقيها الثقافي ونضوجها الفكري.
لذلك، نوجه عناية المسؤولين وكل من له غيرة على تراثه الثقافي بضرورة الالتفات إلى المعالم التراثية داخل المدينة العتيقة، لإيلائها ما تستحق من عناية واهتمام ، ولما لها من قيم روحية ومعنوية وجمالية في نفوس الناس.
من هذا المنطلق، ننادي بوقف معول الهدم الذي يتربص ببيت إدموند عمران المليح، كما ننادي بوقف الهجوم على كل ما يشكل ذاكرة مدينتنا التي تعد مرآة تعكس ثقافة المجتمع وعاداته وتقاليده . فمن المؤسف أن يجهل هؤلاء وأولئك أو يتجاهلوا قيمة وأهمية ذاكرة المدينة ..

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اثنان × 4 =

زر الذهاب إلى الأعلى
MCG24

مجانى
عرض