ثقافة

بين التجديد والتهجين: حين يُساء فهم القرآن باسم العقلانية

الدكتور محمد التهامي الحراق 

أتابع باهتمام أبرز ما ينشر من حوارات حول “القراءات الجديدة للقرآن الكريم”؛ وفيها الكثير من الإشارات المبدئية والمنهجية التي أوافق عليها وأتبناها، وفي مقدمتها ضرورة الإفادة من الموروث التفسيري الإسلامي الغني، ومن علوم القرآن الكريم، ومن فتوحات فهم الأسلاف، إفادة نقدية تقبل وترفض حسب مقتضيات معرفية مضبوطة وملزمة، تراعي تطورات المعرفة في مختلف أبعادها في السياق العلمي والابستمولوجي المعاصر. لكني، صراحة لا أستسيغ عددا من هذه القراءات اليوم، التي يغامر أصحابها باسم التجديد في مجال لم يتقنوا مفاتيحه الرئيسة، وفي مقدمتها علوم اللغة العربية.

لا يكفي أن تكون مهندسا أو دارسا للعلوم الطبيعية والرياضية لكي تكون “عقلانيا” في فهم القرآن الكريم. هذا وهم كبير. من شروط الفهم العقلاني للوحي، أولا، إتقان علوم اللغة من نحو وصرف ومعجم وبلاغة ببيانها ومعانيها وبديعها، فضلا عن إتقان علم أصول الفقه، واستيعاب معارف الكلام والحديث والتصوف والفلسفة وغيرها من معارف الثقافة الإسلامية التي نشأت بفضل النص وحوله.

هذا أمر ضروري لابد من استيعابه وتمثل إبستميته ومحاورته قبل أي دعوى تجاوز أو تجديد. فتحرير النص من القراءات السابقة يتم بالتمكن من أدواتها وإبراز نقائصها، واقتراح إبدالات مقنعة معرفيا وإبستمولوجيا، كفيلة بتجاوز أعطابها في السياق المعرفي الراهن. وفي غياب مثل هذا العمل العلمي الحتمي فلا يكفي زعم التجديد كي نكون إزاء تجديد، بل نجدنا أحيانا إزاء مسوخ في الفهم باسم التجديد؛ خصوصا حين ينضاف إلى عدم التمكن من المعارف الإسلامية الموروثة قصور فظيع في العلوم الإنسانية ومناهجها، وعدم التمكن من الثورات المعرفية الكبرى في اللسانيات وعلوم تحليل النص.

وهنا أجدني مع الرأي الذي يؤكد أن ثمة ممكنات رفيعة منسية في ميراث قراءات أجدادنا النص الوحياني لم يتم استثمارها والإفادة منها، وهي في كثير منها مدهشة وأكثر تحريرا لفهمنا اليوم للوحي من كثير من ادعاءات بعض “المجددين”.

فلنتواضع كثيرا ونحن نقف بين يدي القرآن الكريم. الأمر أعظم من مجرد دعاوى وقفزات ومناوشات في فهم هذه الكلمة أو تلك. الأمر يقتضي عملا كبيرا لمؤسسات علمية، بفرق بحث متخصصة، ومتفرغة، ومؤطرة؛ وذلك للذهاب بعيدا في إعادة استنطاق عجائب الوحي التي لا تنقضي، والتقاط ما يخص به هذا النص الخالد قارئ القرن الحادي والعشرين من آفاق وأسرار.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

17 − ستة عشر =

زر الذهاب إلى الأعلى
MCG24

مجانى
عرض