ثقافة

في نقدِ توْهينِ النَّقْد….

الدكتور محمد التهامي الحراق
هناك، أيها الأصدقاء، مشكلة كبرى على مواقع التواصل الاجتماعي، كان قد انتبه إليها الروائي والسيميائي الإيطالي أمبرطو ايكو، وهي مخاصمة هذه المواقع للثقافة النقدية. فبمجرد أن تطرح أفقا نقديا حتى يتم تحويلُه إلى تنابزٍ وسجال، ويتحوّلَ الجدلُ الفكري الخصيبُ إلى صراعِ مواقعَ ومنافع، وتنابذِ أصنامٍ ودوغمائيات. وهذا أمر خطير للغاية؛ أن يتمَّ تحويلُ النقاش المعرفي، الذي يتمُّ تخصيبُه بالنقد والاختلاف، وتبادلِ وتفاعلِ الرؤى، وتقابلِ وتكاملِ التأويلات، وتلاحقِ وتلاقحِ الأفكار، وتدافعِ وترافعِ الطروحات…؛ أن يتم تحويلُ هذا النقاشِ الغنيّ والحيّ والمنْتِج إلى تنابذٍ بين دوغمائيات، وتنابزٍ بين الأنَوَات، وتشاحُنٍ بين نفْسيّات، وتصادمٍ بين “توثيناتٍ” تشملُ الأفكارَ والأشخاصَ على حد سواء.
هنا، يصير النقدُ مرادفا للهجاءِ والقدحِ والتعريضِ وتحطيمِ الأبراج؛ فيما النقدُ المعرفي يقعُ خارجَ ثنائياتِ التقريظِ والتعريض، المدحِ والقدْح، الثناءِ والهِجاء، الموالاةِ والمعارضة…؛ النقدُ المعرفي تفكيكٌ وتحليلٌ واستبارٌ ومساءلةٌ، من أجل التجاوز الدائمِ للأفكارِ المتجاوزَة والرّؤى الزّائفةِ والأجوبةِ العانِسَة. إنه توليدٌ خصيبٌ للأسئلة الكفيلةِ بكشفِ الحُجُب عن عوالمِ الحقيقة؛ تلك التي لا تُعْطي أبدا ذاتَها دونَ مكابَدة ومجاهَدة، ولا تكشِف عن ماهيتها أبدًا بشكل كامل ونهائي، وتلك التي نُذِر الإنسانُ للبحثِ عنها، وجعلِها منبعَ جدوائيتِه الأنطلوجية، ومصدرَ تغذيةِ ظمئِه الوجودي للمعنى. ومتى ما كَفّ وتوَقّف هذا البحثُ فَقَدَ الإنسانُ تينك الجدوائية والتغذية. إنها الحقيقة التي مايفتأ يؤكِّد عليها الوحيُ والتاريخُ، الإيمانُ والعقل. وواهِمٌ من يعتقد أن الإيمانَ يغلق بابَ البحث عن الحقيقة؛ إنه فقط يمكّن المؤمنَ من أدواتٍ روحيةٍ ووجدانيةٍ وميتافيزيقيةٍ مخصوصةٍ للبحث عنها والترقي اللانهائي في طلبِها، كما هو شأن العقلِ الذي ما يفتأ يتجاوزُ نفسَه ويجدد مناهجَه ويخترقُ استحالاتِه في سبيل هذا البحث بِأدواتهِ الخاصة والمتطوّرة بشكلٍ دائم. لذا لا يختلف الدغمائيون من حيث منحاهُم الصَّنَمِي سواء انتحلُوا لمنحاهُم هذا عنوانَ العقلِ أو عنوانَ الإيمان، والعقل والإيمانُ من هذا المنحى بريئان. المؤمن ما يفتأ يجدّد إيمانَه عبر تجديدِ الاستمداد المتسائل من الوحي، والترقي في طلبِ الحقيقة المتعالية؛ والمتعقّل ما يفتأ يجدّد معرفتَه عبر تجديد السفر في مساءلة حدود عقله وأدواتِه وخلاصاتِه.
من هنا، يُعتبر كلُّ تصنيمٍ للأفكار أو الأشخاصِ خيانةً لتقوى طلب الحقيقة، أكانت تقوى حالٍ في الإيمان، أم “تقوى سؤالٍ في الفكر”، حدِّ تعبير ٍلهايدجر.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

ثمانية + 17 =

زر الذهاب إلى الأعلى
MCG24

مجانى
عرض