
تحل الذكرى الثانية والسبعون لثورة الملك والشعب ، ليستعرض الشعب المغربي الشريط البطولي والملاحم الكبرى للوطن ، هذا البلد المين ، الوفي لمقدساته ، المعترف بالفضل لأهله . هو فعلا حدث تاريخي عظيم ، أبان من خلاله الشعب المغربي بقيادة ملكه جلالة المغفور له محمد الخامس طيب الله ثراه ، عن صدق وطنيته وعمق محبته لملكه .
والحقيقة أننا اليوم ، في حاجة لاستعراض شريط البطولات التي خاضها الشعب المغربي في سبيل رجوع ملك البلاد وزعيمها إلى عرشه حاملا في يده الكريمة وثيقة الحرية والاستقلال ، وذلك حتى يتمكن الجيل الحاضر من التعرف إلى نضال الشعب والعرش أيام المحن التي مروا منها في ظل الاستعمار الفرنسي الغاشم .
إنها مشاعر وطنية صادقة وأحاسيس شعب أحب وطنه وملكه .. وهي مشاعر ظلت متوهجة في أعماقه حتى بعد ثورة الملك والشعب في عهد جلالة الملك الحسن الثاني طيب الله ثراه ، بعد أن لبى والده السلطان محمد الخامس داعي ربه وانتقل إلى جواره راضيا مرضيا .. ليجد الشعب في ملكه الحسن الثاني خير خلف ، حيث اضطلع بالأمانة الكبرى عن جدارة واستحقاق وإخلاص وتفان في خدمة الوطن .. فوحد البلاد وصانها وبسط نفوذه على صحرائها ، محققا الكثير من المنجزات التي خلدها طيب الله ثراه ، وهي اليوم شاهدة على أيامه الجليلة .. ليكمل بعده جلالة الملك محمد السادس نصره الله وأيده مسيرة النماء ، فحمل الأمانة باستحقاق كبير وسار على نهج والده في ترسيخ الديموقراطية والعدالة الاجتماعية بالبلاد مع نهضة ثقافية وعمرانية واقتصادية وصناعية .
إن صدى ثورة الملك والشعب وما أحدثته في النفوس من إعجاب وتقدير لذلكم التلاحم بين العرش والشعب ، لم يكن غريبا ، فالصدى هز الوجود بأكمله وزلزل آمال المستعمر الغاشم .
لقد كانت ثورة الملك والشعب نقطة تحول في المسار الشعري لفن الملحون الذي احتوى قضايا وطنية متعددة ، تتصل بالوطن وتلقي بالضوء على كثير من الجوانب الاجتماعية والوطنية ، مرة بالتصريح وأخرى بالرمز والتلميح .. مما يوضح أن شعراء الملحون مواطنون مناضلون وملتزمون بقضايا وطنهم ، يفصحون عنها ويبدون رأيهم فيها دون خوف أو خجل ، تبعا لما يفرضه الدين من واجب الجهر بالحق والتصدي لمقاومة أعداء الله والوطن .
وقصيدة الملحون ـ كما يعلم الجميع ـ لم تكن أبدا منفصلة عن قضايا الوطن الحيوية ، ومشكلاته السياسية والاجتماعية . فالشعر الصادق ، إنما يمس ظروف الحياة التي تعيشها الجماعة ، سواء أكان الشاعر نفسه على وعي بهذه الحقيقة أو لم يكن ، فكل مجتمع كان وما يزال له قضاياه المحلية الخاصة . والمغرب كسائر دول العالم ، عرف في بعض مراحله التاريخية تطورات مهمة اضطرته إلى أن يأخذ منها موقفا معينا ، ويدافع عن نفسه ويكافح ضد القوى الزاحفة عليه .
وإذا كان الشعر المدرسي قد عبر بكل تلقائية عن الواقع المغربي في مختلف تطوراته ، فلا بد أن نسجل أن الشعر الملحون لم يخرج عن هذه القاعدة ، وانبرى شعراؤه للتعبير بكل صدق وأمانة عن هذا الواقع . ومن ثمة ، قام شعراء الملحون بدور طلائعي في إذكاء روح الجهاد والمقاومة ضد من تسلطوا على وطنهم ، وتطاولوا على مقدساته .. على الرغم من المضايقات التي كان يتعرض لها هؤلاء الشعراء وغيرهم من شرفاء هذا الوطن .
إن الشعر الوطني ـ في نطاق قصيدة الملحون ـ قد انبعث من صدور هؤلاء الشعراء ليشهد على مأساة تاريخية ، وليدين الاستعمار في الآن نفسه . وهو إلى جانب ذلك ، يؤكد على منازلة العدو وعدم هيبته ، رغم قلة إمكانيات المقاومة والتصدي لذلك العدو ، مما جعله يترك الأمر لله تعالى ، فهو الرقيب والمغيث والقادر على إلحاق الخسارة بالاستعمار.
يقول الشيخ الحاج الصديق :
يا رب نـرجـاك يا إلاه الغنـــــي ونت الكريم ونت صاحب لفادا
ونت ارقيب نعم لهدى الموراني ونت صرخت المغيث اللي نادا
تاخذ حقي في امحاصرين أوطاني تجعل نــار ربـي فيهــم وقــــادا
فلم يكن شاعر الملحون لينسى أبدا وطنه ويتخلى عن التمسك بقضاياه ، فغدا مشغول البال كثير التفكير في مصيره ، خاصة بعد أن داهم الاستعمار بلاده وتسلط عليها .
ولغل قراءة سريعة للقصائد الوطنية في الشعر الملحون ، تؤكد مدى إخلاص شعراء الكريحة لوطنهم والتفاني في الدفاع عن مقوماته الثابتة . وإلى هذا يشير الشيخ محمد الرباطي من أسفي متحدثا عن راية الوطن ، راية النصر .. إذ من خلال وصفها يبدو الوطن حبيبا حرا جميلا بهيا ..يقول :
يـا بــدر انبــا مـن الحجـــــــاب يا طلوع الزهرا يا راية النصر لحبيبا
عـجـلـي بــوصـال المحبـــــوب مــا حـبــك عــنــي غــــــــــــــــلاب
ما حب احبيبك مغلوب دون ريب غليبا واجـب الــطــاع للــمــغــلــــــــــــوب
وهذا الشيخ ادريس المباركي من سلا ينظم هو الآخر قصيدة في المقاومة الوطنية ، يحث فيها المغاربة على مساندتها والتشبث براعيها جلالة الملك محمد الخامس رحمه الله . ومطلعها :
ما احلى كاس المنيا على الوطان كافحوا يا شبان اعلى اوطانكم
إن الصراع الذي ظل محتدما بين الوطن والمستعمر ، قد خلق جوا موبوءا ، غاظ المستعمر وأقلق راحته ، وجعله يئن أنينا من صفعة الملك والشعب .. وهذه الحقيقة جعلته يتأكد من يوم لآخر من أفول نجمه وزواله واندحاره ، فآمن بأن التاريخ ـ كما يقال ـ إنما تكتبه الشعوب بدمائها ونضالها وحبها لوطنها ، وأن الاستعمار ظل زائل ، لا أساس لوجوده ولا قرار . وهذا ما جعل الشعب المغربي يؤمن بحقه الذي يضمن له كرامته ووجوده ، فظل صامدا أمام العدو ، مستمدا قوته من إيمانه وعقيدته وإخلاصه وحبه لقائده .. فكانت ثورة الملك والشعب خير نموذج لوجوه الالتقاء والتأثير المتبادل بين الملك وشعبه .
يقول الشيخ محمد بن عمر وهو يصف ثورة الشعب على إثر نفي السلطان محمد الخامس طيب الله ثراه :
يا هلي معظم يوم السبت بانت ارجال فالمداين خرجت بطراردها كاتقاتل
شبــان افحــول خارجيــــن اكفــــول ذا لهذا جذبان الحال ســار في حال
كـل واحـد بلسانـو كيصــرخ قايـــل وينـادي فالـحجــايف ولـحـفـــــــول
يا هل الشعب المغربي اكهوا واطفال ما ابقى بعد اليوم اصبر يا السايــل
بــه الشبــان بـالـجـمـيــع اتقـــــــول يوم الخميس امضى وابقى الحرب ما زال
عمر الثورا ما تهنا الشعب حامـــل والـيـــوم اهــلــو سـيبـو لـحـمـــــــــول
إن نفي الملك محمد الخامس ، جريمة شنعاء أقدم عليها المستعمر بإزاحته لرمز الحرية والاستقلال عن عرش أسلافه ، نظرا لمواقفه الوطنية الراسخة ، سعيا منه ـ قدس الله ثراه ـ ليعيش شعبه وهو يرفل في الحرية والأمن والاطمئنان .ز حيث عمل المستعمر الفرنسي على نقل جلالته مع أسرته إلى المنفى في كورسيكا ثم إلى مدغشقر بعيدا عن بلاده وشعبه ، حتى يتأتى لهذا المستعمر أن يفعل ما يحلو له ويطيب ، الأمر الذي تضايق منه الشعب ورفضه رفضا قاطعا ، مما أجج الثورة وزاد من فورانها . ولم يترك شاعر الملحون الفرصة لتمر دون التعبير عن تضايقه ، معبرا عن ثورة الشعب العارمة التي اشتعلت نارها في المغرب مخاطبا ملكه محمد الخامس بقوله :
ما حر نار افراقك ومـا عـز مـلـقـــــــاك
رب الوجود رقاك قلبي ادوا وتاه ابشوقك
ولم يتخلف شاعر آخر عن الإعراب عن مشاعره اتجاه ما لقيه الشعب من عنت جراء نفي ملكه فيقول :
قلبي يا قلبي قـل لـي مـالك هجتي وهاج وجدي بهياجك
الدمع أفخدي شاق امسالك ايناسب من عيوني غليان
اتقول طاب عن صهد اصلاك اهوالي منك فات اهـــوالك
أنت اعليل ونا منك معلـــول كل سـاعة انصادف لهـلاك ..
لقد استخدمت فرنسا الإرهاب وقدمت الأموال بغية خلق حركة معادية للملك محمد الخامس ، تهدف إلى فصل سلطاته المدنية عن سلطاته الدينية ، اكنها في الواقع كانت تستهدف إبعاده عن الحكم وتغييره بحاكم آ خر لا يرفض لها طلبا . ومن ثمة ، قامت بنفيه من بلاده في الوقت الذي عين فيه المتآمرون محمد بن عرفة حاكما للمغرب .. وكانت ضربة قوية أرادت بها فرنسا إرهاب الوطنيين ومنعهم من القيام بأي حركة في المجال السياسي .
لكن المغاربة الأحرار هبوا جميعا للجهاد ، مطالبين بعودة ملكهم الشرعي إلى عرشه مهما كان الثمن .. فلن يطيب لهم العيش ولن يحلو لهم الوصال إلا مع سيد البلاد الملك محمد الخامس . يقول شاعر الملحون بلسان مواطنيه :
أمن تلومني شعلت نــــار ادخالي أدخالي كاوي ابفرقت الشمــلال
شملال أمن فراق لعقيل امشى لي امشى لي والنوم ضج من لنجال
لنجال على لخدود أمعها سلسالــي سلسالي بهوى كما لمطر هطـال
هطال من افراق اللي زاد اهوالي اهوالي من فكد من اهوينا اغزال
اغـزال قلبها غيـر ما يحلـى لـــي يحلى لي وصلو إلى انعم بالوصال
لقد حاولت فرنسا أن تثبت على سياسة القمع والشدة ، وألقت القبض على عدد هائل من المغاربة ، طردتهم من ديارهم وزجت بهم في السجون . وضمن هؤلاء شعراء الملحون ، حيث أدركت حقيقة ما كانوا يفعلون ، فراحت تكيل لهم الضربات وتصادر شعرهم على حد ما وقع للشاعر الحاج محمد بن علي المسفيوي وغيره من الشعراء . لكن روح الثورة كانت أقوى من أن تتراجع أو أن تستسلم ، وصعب على فرنسا مواجهة الملك والشعب ، وشعرت بأنها تواجه فعلا عاصفة قوية . فقد ظل الشعب متشبثا بأمل العودة والنصر ، وهو ما سجله شاعر الملحون بقوله :
لا زلت نرتجى ابشارك يـاتـي لـمـرسـمـي بـخبــــــارك
وفدني برسم امـــزارك ونقول سعد سعدي ابيوم مبروك
واضحى الرقيب متروك اتجدد لفراح ونغنم ساعة امبارك
وانقول الله اينصرك
إن ثورة الملك والشعب ، كانت استجابة صادقة للأماني والآمال الوطنية والعقدية التي اختلجت في نفوس المغاربة ، إلى أن رأوا النور مع فجر الاستقلال ، وهي ثورة جاءت لتأكيد حريتهم ومدى تعلقهم بملكهم محمد الخامس . يقول الشيخ محمد بلكبير من مراكش :
أسيــدي محمد الــولي قطــب لعبـــــاد أسيدي محمد الشريف أسيد اسيادي
انت غوث الصالحين في مغربك لسعد هدي هدليك يا حبيب الروح ولفئاد
وقبولك لها دخيرتي واعنايتي وزادي أمولاي ما يشابهك في ورعـــك حد
فاح اعبير اشداك ما ترك وسط وطانك نادي
وجملة القول ، فثورة الملك والشعب ، جاءت كما قال الحسن الثاني رحمه الله : لأجل تكوين الرجل المغربي والمرأة المغربية ، ليكونا معا جديرين بخوض المعركة والصبر طوال المعركة ، والنصر في آخر المعركة ” مضيف طيب الله ثراه : ” لقد علمنا مربينا الكبير المرحوم رضوان الله عليه أن المعركة كيفا كانت ، لا يمكن أن ينجح صاحبها إلا إذا كان قويا في الداخل وكان له حلفاء في الخارج ..”
إن تصدي المغرب للاستعمار ، جعل من التاريخ المغربي تراثا يسجل قيم الصمود والتصدي والدفاع عن الحرية والكرامة .. ففاقت قوة إيمان الملك وشعبه كل تقدير ، فشكل هذا الالتحام بين العرش والشعب ملحمة رائعة تسجل بمداد الفخر والاعتزاز ، وعلى أبناء وطننا ، خاصة منهم الجيل الحاضر ضمان استمرارية هذا التلاحم للوصول بهذا الوطن إلى ما هو أرقى وأفضل ، خاصة والمغرب اليوم تحت القيادة الرشيدة والمتبصرة لجلالة الملك محمد السادس حفظه الله ، يطلق سلسلة من الأوراش الكبرى والمشاريع المهيكـلة التي تضع المغرب على الطريق الصحيح بغية تحقيق إقلاع اقتصادي متين ، مما يدفع ببلدنا ليتجه بشكل حاسم إلى المستقبل وإلى مزيد من الانفتاح . فالآفاق التنموية في بلادنا ، تبدو واعدة في أفق تحقيق ما حدده النموذج التنموي لمغرب 2035 من توصيات ومعالم لدخول فعلي في نادي الدول الصاعدة ، محققا بذلك ما توعد به جلالة الملك محمد السادس في أول خطاب له بتاريخ : 30 يوليوز 1999 ، بأن يسيــرعلى خطى والده جلالة الملك الحسن الثاني طيب الله ثراه لتحقيق التنمية الشاملة . يقول حفظه الله : ” نحن بحول الله مصممون العزم على مواصلة مسيرة التطور والنماء لصالحك شعبي العزيز ، ولفائدة جميع فئات الشعب سيما المحرومة التي يستأثر مصيرها باهتمامنا والتي نوليها عطفنا وحنونا . ”
لذلك ، فبلدنا اليوم ـ ولله الحمد ـ قوة دافعة للتنمية المستدامة بهدف بناء اقتصاد قوي ومتكامل .