
الإصلاح الجبائي في المغرب نحو عدالة ضريبية جديدة
تشهد المنظومة الجبائية في المغرب تحولات عميقة خلال السنوات الأخيرة، بفضل الإصلاحات المتتالية التي جاءت في إطار القانون الإطار للإصلاح الجبائي، المنبثق عن المناظرات الوطنية لسنة 2019. وقد ساهمت هذه الإصلاحات في تحقيق قفزة نوعية في المداخيل الضريبية، إذ ارتفعت من 201 مليار درهم سنة 2021 إلى أكثر من 300 مليار درهم سنة 2025، أي بزيادة تجاوزت 63 في المائة، وفق معطيات رسمية حديثة.
ويُرتقب أن يتضمن مشروع قانون المالية لسنة 2026، المنتظر عرضه على البرلمان قبل 20 أكتوبر الجاري، تدابير جديدة تُستكمل بها مراحل الإصلاح الجبائي، في إطار رؤية تسعى لتحقيق العدالة الاجتماعية وضمان التوازنات المالية.
تدابير جبائية وجمركية مرتقبة في قانون مالية 2026
أشار تقرير صادر عن وزارة الاقتصاد والمالية، حول تنفيذ الميزانية والتأطير الماكرو اقتصادي لثلاث سنوات، إلى أن مشروع قانون المالية لسنة 2026 سيتضمن مجموعة من التدابير الجبائية والجمركية الجديدة، تهدف إلى تعزيز الشفافية ومحاربة التهرب الضريبي، إضافة إلى تحسين مناخ الأعمال ودعم الاستثمار.
وتشمل أبرز هذه التدابير المرتقبة:
أولاً، تسهيل إدماج القطاع غير المهيكل في الاقتصاد المنظم عبر توسيع آلية الاقتطاع من المنبع، بما يضمن شفافية أكبر في المعاملات الجبائية.
ثانياً، مراجعة الحوافز الضريبية الخاصة بإعادة هيكلة المقاولات، من خلال التبسيط والإرساء التدريجي لآليات التتبع والمراقبة.
كما سيتم العمل على توضيح القواعد الضريبية ومواءمتها مع المعايير الدولية، لتفادي اختلاف التأويلات وتحسين علاقة الثقة بين الإدارة ودافعي الضرائب.
وفي الشق الجمركي، من المرتقب إحداث آلية جديدة لوضع علامات على المنتجات النفطية بالتعاون مع وزارة الانتقال الطاقي، بهدف الحد من الغش وتعزيز المراقبة في هذا القطاع الحيوي.
كما ستُوسَّع العلامة الضريبية لتشمل منتجات تحتوي على السكر أو مشتقات التبغ، حفاظاً على صحة المستهلك وضمان التتبع القانوني للسلع الخاضعة للضريبة الداخلية على الاستهلاك.
وسيستمر العمل أيضًا بالإصلاح الجبائي المتعلق بالضريبة الداخلية على السجائر إلى غاية سنة 2026، في إطار سياسة تدريجية تهدف إلى ضبط السوق وتحسين موارد الدولة.
العدالة الجبائية واستدماج القطاع غير المنظم
يرى عبد الرزاق الهيري، أستاذ الاقتصاد ومدير مختبر الدراسات الاقتصادية بجامعة سيدي محمد بن عبد الله بفاس، أن الإصلاح الجبائي في المغرب أصبح يشكل “مرجعية استراتيجية واضحة” ارتكزت على خمس أولويات وأربعة عشر هدفاً أساسياً.
ومن أبرز هذه الأهداف: تشجيع الاستثمار، تعزيز العدالة الاجتماعية، تقليص الفوارق المجالية، وتحقيق التنمية الترابية.
ويعتبر الهيري أن إدماج القطاع غير المهيكل في الاقتصاد المنظم يمثل أولوية وطنية قصوى، لما له من أثر مباشر على توسيع الوعاء الضريبي وتعبئة الموارد الكفيلة بتمويل السياسات الاقتصادية والاجتماعية.
كما أشار إلى أن تقييم حصيلة أربع سنوات من تطبيق القانون الإطار بات ضرورياً لمعرفة مدى فعالية الإصلاحات في تحقيق التنمية والعدالة الاجتماعية. وأضاف أن الإصلاحات الجزئية السابقة، خاصة في ما يتعلق بالضريبة على الشركات والضريبة على القيمة المضافة، ساهمت في تخفيف العبء وتحسين المداخيل وتعزيز جاذبية الاستثمار.
لكن النجاح الحقيقي، حسب رأيه، يتوقف على قدرة الحكومة على تحقيق التوازن بين الإصلاح المالي ودعم القدرة الشرائية، وتمويل القطاعات الحيوية مثل التعليم والصحة، في ظل المطالب الاجتماعية المتزايدة بإصلاحهما.
التحديات الاجتماعية والمالية في آخر الولاية الحكومية
في السنة الأخيرة من الولاية الحكومية الحالية، يعود النقاش بقوة حول الإصلاح الجبائي كرهان مزدوج يجمع بين تحقيق العدالة الضريبية والحفاظ على التوازنات المالية.
ويؤكد الخبراء أن العائدات الجبائية تشكل العمود الفقري لتمويل النفقات العمومية، وأن أي تخفيض ضريبي غير مصحوب بتوسيع القاعدة الضريبية قد يؤدي إلى عجز مالي يهدد الاستدامة الاقتصادية.
ويرى الهيري أن الحكومة تواجه ضغطاً اجتماعياً متزايداً ناتجاً عن ارتفاع المطالب بتحسين الخدمات العمومية، خصوصاً في مجالي التعليم والصحة، إضافة إلى ضرورة حماية القدرة الشرائية للطبقات الوسطى والضعيفة.
ويجعل هذا الوضع الحكومة أمام معادلة دقيقة تتطلب موازنة بين تلبية المطالب الاجتماعية وضمان استقرار المالية العمومية.
رأي الخبراء في مستقبل الإصلاح الجبائي
من جانبه، أكد خالد حمص، أستاذ العلوم الاقتصادية بجامعة محمد الخامس بالرباط، أن العدالة الجبائية تظل “أحد أكبر التحديات” التي تواجه الحكومة الحالية في آخر قوانينها المالية.
وأوضح أن المغرب من بين الدول التي ما تزال تسجل نسب ضرائب مرتفعة مقارنة بدول المنطقة والعالم، وهو ما ينعكس سلباً على دينامية الطلب الداخلي ودوران العجلة الاقتصادية.
وشدد حمص على ضرورة استكمال مراجعة نسب وأشطر الضرائب، وتوسيع الوعاء الجبائي لتمويل المشاريع الاجتماعية الكبرى، مع اعتماد آليات تمويل مبتكرة تضمن استدامة الإصلاح دون زيادة الضغط على المواطنين.
كما نوّه إلى أهمية العمل على استدماج القطاع غير المهيكل في المنظومة الجبائية، باعتباره مدخلاً أساسياً لتوسيع الموارد وتحقيق العدالة بين جميع الفاعلين الاقتصاديين.
يمثل الإصلاح الجبائي في المغرب اليوم أكثر من مجرد ورش مالي، فهو اختبار حقيقي لقدرة الدولة على الموازنة بين العدالة الاجتماعية والاستدامة الاقتصادية.
ومع اقتراب عرض مشروع قانون المالية لسنة 2026، ينتظر الجميع أن يشكل هذا المشروع خطوة جديدة نحو بناء نظام ضريبي أكثر عدلاً وشفافية، يرسخ الثقة بين المواطن والإدارة، ويواكب تطلعات النمو الاقتصادي الوطني.