
في صباح كهذا من 18 نونبر، قبل سبعين عاماً، دوّى صوت المغرب مجدداً في الساحة الدولية، معلناً ميلاد مرحلة جديدة بعد سنوات طويلة من الكفاح الوطني. لم يكن استقلال المملكة حدثاً سياسياً عابراً، بل خلاصة مسار نضالي تجذّر في الأرض والذاكرة والوجدان، شاركت فيه القيادة والشعب والمقاومة وجيش التحرير، فصنعوا معاً واحدة من أهم صفحات التاريخ المغربي الحديث.
عندما نتأمل اليوم هذه اللحظة الفارقة، يبدو التاريخ وكأنه يفتح دفاتره من جديد، لنقرأ فيها الدور المفصلي لجلالة الملك محمد الخامس رحمه الله، القائد الذي حوّل صمودَه إلى ملحمة، وصوته إلى منارة للمغاربة وهم يعبرون واحدة من أصعب فترات الاستعمار.
محمد الخامس… قائد لم يساوم على هوية وطنه
لم يكن الملك محمد الخامس مجرد رمز سياسي. لقد تحوّل في سنوات الحماية إلى عنوان لكرامة بلادٍ تبحث عن نفسها. وقف في وجه الضغوط الاستعمارية حين حاولت فرنسا فرض سياسة التجنيس وفصل المغاربة عن جذورهم، وقال كلمته الشهيرة: “نحن جزء من الأمة العربية والإسلامية، ولن نحيد عن ذلك.”
ومع اشتداد القبضة الاستعمارية، تصاعدت مواقف الملك الرافضة لكل محاولات الالتفاف على السيادة الوطنية، فصار صوته يوازي قوة المقاومة في الميدان. وبعد نفيه سنة 1953 إلى كورسيكا ثم مدغشقر، لم يخفت ذلك الصوت، بل ارتفعت مكانته في قلوب المغاربة. تحوّل النفي إلى شرارة، والصمت إلى قوة دفعت الشعب إلى الانتفاضة العامة، وإلى التمسك بعودة الملك باعتبارها طريق الحرية.
وعندما عاد محمد الخامس إلى الوطن سنة 1955، لم يكن عائداً إلى القصر فقط، بل عائداً إلى شعب حرّ فتح أبواب مرحلة الاستقلال والسيادة الوطنية.
المقاومة المغربية… ذاكرة النار والوفاء
في الأزقة الضيقة، وفي الجبال والقرى، ولدت خلايا المقاومة المغربية. لم تكن حركة منضبطة بالهيكلة الحديثة، لكن روحها كانت أقوى من التنظيم، لأنها كانت تنبع من شعور جماعي بالظلم والرغبة في التحرر.
قدّم المقاومون تضحيات جسيمة، وكانوا الجسر الذي عبر عليه الشعب من زمن الخضوع إلى زمن الفعل. من العمليات الفدائية في المدن، إلى شبكات الدعم السرية، إلى حماية الرموز الوطنية… كانت المقاومة تنسج مشروع وطن حر، حتى قبل إعلان الاستقلال.
وترسخت في هذه الفترة أسماء كثيرة قُدمت للوطن بلا تردد. أسماء ربما لم تكتبها الصحافة كثيراً، لكنها محفورة في ذاكرة البيوت والقبائل والحقول التي شهدت على جيل آمن بأن الوطن يستحق الحياة.
جيش التحرير… حين حملت الجبالُ البندقية
مع بداية الخمسينيات، تحوّلت الجبال المغربية إلى مسرح جديد للنضال. جيش التحرير كان الجناح العسكري للمقاومة، وامتد نشاطه من الشمال إلى الجنوب، خاصة في الريف والأطلس. وقد شكّل هذا الجيش قوة ضغط كبرى على فرنسا وإسبانيا معاً، لأنه نقل المعركة من المظاهرات السياسية إلى المواجهة المسلحة.
خاض هذا الجيش معارك صعبة، بعضها محفور في الذاكرة الوطنية مثل معارك بوغافر، إكنيون، أهبابو، وعمليات الشمال. كانت تلك اللحظات تقول للعالم إن المغرب ليس أرضاً سهلة، وإن إرادته أقوى من كل خطط القوة.
الاستقلال… لحظة ميلاد مشروع دولة
عندما أعلن محمد الخامس استقلال المغرب سنة 1956، لم يكن الحدث مجرد نهاية مرحلة استعمارية، بل بداية مشروع دولة حديثة. انطلقت مسيرة بناء المؤسسات، وتوحيد التراب الوطني، وإعادة تشكيل الإدارة، وتحديث التعليم، وترسيخ السيادة الاقتصادية والسياسية.
وواصلت الدولة المغربية بقيادة الملوك المتعاقبين توسيع هذا المشروع، حتى وصل اليوم إلى رؤية تنموية وإصلاحية واسعة، تعكس امتداد ذلك الجذر الأول الذي زرعه جيل التحرير.
بعد سبعين عاماً… لماذا نتذكر؟
لأن الذاكرة ليست حنيناً، بل بوصلة.
ولأن الاستقلال ليس وثيقة محفوظة في الأرشيف، بل مسؤولية تُجدّد كل يوم.
ولأن جيل اليوم يحتاج أن يفهم كيف صُنعت هذه البلاد، وكيف دافع عنها رجال ونساء لم يكن لديهم من القوة إلا الإيمان بالوطن.






















