العلاقة التاريخية بين الحسن الثاني والشعب في المسيرة الخضراء

سياسةفيديو

قبل نصف قرن، وتحديدًا في السادس من نونبر عام 1975، انطلقت من شمال المغرب إلى أقصى جنوبه أعظم مسيرة سلمية في القرن العشرين، شارك فيها أكثر من 350 ألف مغربي ومغربية، حاملين المصحف الشريف والعلم الوطني، متوجهين نحو الصحراء المغربية لاسترجاعها من الاستعمار الإسباني.
لكن خلف هذه الصورة الخالدة، كانت تختبئ قصة أعظم من الجغرافيا والسياسة: قصة علاقة فريدة من نوعها بين الملك الحسن الثاني وشعبه، علاقة نسجتها الثقة المطلقة والإيمان المشترك بوطن واحد ومصير واحد.

دعوة في المجهول

حين دعا الملك الحسن الثاني، رحمه الله، إلى المسيرة الخضراء في خطابه التاريخي يوم 16 أكتوبر 1975، لم يكن أحد يعرف ما الذي ينتظر أولئك الذين سيتوجهون إلى الصحراء.
كان الإسبان لا يزالون يحتلون الأقاليم الجنوبية، وكان احتمال المواجهة المسلحة واردًا. ومع ذلك، لم يتردد الشعب المغربي لحظة واحدة.
في ظرف أيام معدودة، امتلأت القوافل من كل جهات المملكة بآلاف الرجال والنساء المتطوعين، يرددون “الله أكبر” و“الصحراء مغربية”، دون خوف أو تراجع.

لقد كانت ثقة الشعب في قائده تفوق كل الحسابات السياسية والعسكرية. لم يكن أحد يسأل عن الضمانات أو عن النهاية، بل كان الإيمان الراسخ هو أن من دعاهم هو الحسن الثاني، وأن من يقودهم هو الوطن نفسه.

عبقرية القيادة في زمن الصمت والانتظار

في تلك اللحظة التاريخية، أبان الملك الحسن الثاني عن عبقرية سياسية وروحية فريدة.
فقد فهم أن النصر الحقيقي لا يُصنع في ميادين القتال، بل في وجدان الناس. لذلك لم يدعُ إلى حرب، بل إلى مسيرة سلمية بأرواح مؤمنة وعدالة قضية واضحة.
أراد أن تكون المواجهة مع المستعمر الإسباني مواجهة حضارية، تُظهر للعالم أن المغرب لا يسترجع أرضه بالقوة، بل بالإرادة والوحدة والشرعية التاريخية.

وبحسب المؤرخ الأمريكي Stephen Zunes، “كانت المسيرة الخضراء عملاً سياسياً مذهلاً في تنظيمه ورمزيته، وأظهرت قدرة المغرب على تعبئة شعبه بطريقة سلمية غير مسبوقة.”

وحدة العرش والشعب.. القوة التي كسرت الصمت

ما ميّز تلك اللحظة لم يكن التنظيم وحده، بل التحام الملك بشعبه في مشهد لم تعرف له المنطقة مثيلًا.
ففي الوقت الذي كانت فيه الجيوش تُسَيَّر بالأوامر، كانت المسيرة تُقاد بالإيمان.
الناس خرجوا من بيوتهم لا بتعليمات إدارية، بل بنداء وجداني صدر من الملك إلى القلوب قبل الآذان.
فقال الحسن الثاني في خطابه الشهير عشية انطلاق المسيرة:

“غدًا إن شاء الله ستدوسون أرضًا من وطنكم العزيز، وستلمسون رماله الذهبية، وسترفعون علم المغرب عاليًا.”

كانت تلك الكلمات كافية لتُحرّك ملايين الأرواح، وتحوّل فكرة في خطاب إلى ملحمة وطنية جسّدها شعب بأكمله.

350 ألف متطوع.. بقلوبهم فقط

تشير الوثائق الرسمية إلى أن 350 ألف متطوع شاركوا في المسيرة الخضراء، من بينهم 30 ألف امرأة، يمثلون كل جهات المغرب دون استثناء.
لم يحمل أحد سلاحًا، بل حملوا القرآن والعَلَم وصورة الملك.
لم تكن في المسيرة جيوش ولا دبابات، بل شاحنات صغيرة ومؤن بسيطة، يقودها رجال بسطاء مؤمنون بقضيتهم، متطوعون للموت إذا اقتضى الأمر، في سبيل استرجاع الأرض والكرامة.

لقد كانت تلك المسيرة ترجمة عملية للعقد غير المكتوب بين الملك وشعبه:
الملك يثق بشعبه، والشعب يسير خلف قائده دون تردد.
وهكذا، تحوّل ذلك الحدث إلى رمز خالد في الذاكرة الوطنية المغربية، تتجدد ذكراه كل عام لتذكر الأجيال الجديدة بما يعنيه أن تكون مغربيًا.

ما وراء الحدث.. فلسفة القيادة

لم تكن المسيرة مجرد خطوة سياسية لإرغام إسبانيا على الانسحاب من الصحراء المغربية، بل كانت درسًا في القيادة الإنسانية.
لقد أظهر الحسن الثاني للعالم أن الملك في المغرب ليس حاكمًا فوق الشعب، بل قائد يسير معه.
ولذلك لم يتحدث عن “جنودي” أو “رعاياي”، بل عن “شعبي”، وعن “أبنائي الذين يسيرون من أجل وطنهم”.

تلك اللغة الأبوية، القائمة على الودّ والثقة، هي ما جعلت الملايين يخرجون دون أن يُسألوا أو يُجبروا.
كانت المسيرة الخضراء تجليًا نادرًا لعلاقة الملك بالمغاربة، علاقة تتجاوز السياسة إلى الميثاق الروحي بين العرش والشعب.

أثرها إلى اليوم

بعد مرور خمسين سنة، لا تزال المسيرة الخضراء تختصر جوهر الهوية المغربية:
ملكية موحدة، شعب وفيّ، وإيمان بعدالة قضية.
وقد استمرت هذه الروح في عهد جلالة الملك محمد السادس نصره الله، الذي حمل مشعل والده المغفور له الحسن الثاني، مواصلاً العمل على ترسيخ التنمية في الأقاليم الجنوبية وترجمة الوحدة الترابية إلى مشاريع تنموية واقعية.

    المسيرة الخضراء ليست فقط حدثًا في تاريخ المغرب، بل مرآة تعكس نوعًا فريدًا من العلاقة بين الحاكم والمحكوم، بين العرش والشعب، بين الرمز والمواطن.
وحين سار 350 ألف مغربي نحو الصحراء سنة 1975، لم يكونوا يسيرون خلف ملكهم فحسب، بل خلف فكرةٍ عميقة:
أن المغرب حين يتحد، لا يمكن لأي قوة في العالم أن توقفه.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

8 − 5 =

زر الذهاب إلى الأعلى
MCG24

مجانى
عرض