مجتمع

كيف نستوعب إسلاميا التعددية الدينية دون التفريط في إطلاقية الدين؟

الدكتور محمد التهامي الحراق

“…هناك مفارقة لا يُلتَفتُ إليها؛ إذا ساوينا على مستوى الحقيقة المطلقة بين كل الأديان فسوف ننتهي إلى تنسيب هذه الحقيقة نفسها. وفي ذلك تنسيب لكل الأديان؛ لأن من مداخل الاستمداد الروحاني الإيمانُ بالمطلق الذي يُجيب على الأسئلة التي لا تستطيع العقول النسبية والعلم النسبي الإجابة عنها. تنسيبُ الحقيقة الدينية معناه إعدامُ الدين، والوقوعُ في تقديس العدمية، وهي كارثة أخرى على مستوى المعنى الأنطلوجي للإنسان. الإنسان لا يحيى إلا بجدلية المطلق والنسبي، هذا ما لا يفهمُه المتعصبون للدين وضد الدين على السواء. لذا، أنا مع من يميّزُ بين “الحقانية” و”النجاة”؛ فأن لا تعتقد في دين أعتبرُه حقًّا لا يعني ضرورةً عدمَ نجاتك الأخروية. فمن منظور تيولوجي روحاني، قد يكون الآخَرُ العقدي صادقا في سعيه لمعرفة الحقيقة الدينية، وانتهَى به سعيُه أو ظروفه أو بيئته أو تعليمُه أو تربيتُه أو مصادر معلوماتِه أو طرائق تعقّلها وسياقات تلقيها…إلخ، إلى الإيمان بحقيقة مُعَيَّنة بعد بذلٍ صادق. فهذا قد يَغفر اللهُ لهُ بسبب صدق سعيه؛ إذ “الكفرُ” في الاصطلاح العَقَدي يعني أساسا الجحودَ والعناد والمكابرة بعد حصول التبليغ الملائم للزمان والمكان والمعارف والمعقولية وأحوال المخَاطبين، وبعد حصول الاستيقان الكامل بالحق من سائر الأوجه، قال تعالى عن مكذبي النبي موسى عليه السلام بعد أن جاءهم بالمعجزات الباهرة: “وَجَحَدُواْ بِهَا وَٱسْتَيْقَنَتْهَآ أَنفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا ۚ فَٱنظُرْ كَيْفَ كَانَ عَٰقِبَةُ ٱلْمُفْسِدِينَ” (سورة النمل، الآية 14).على أن المتكفّل بالحكم النهائي على “الكافر” وكذا بالجزاء والعقاب على ذلك هو الحقُّ سبحانه، لاطلاعه على السرائر والنوايا وخفايا الأحوالِ مما لا قِبَلَ لعبدٍ أو إنسانٍ أن يعرفه أو يستشفه؛ “هلا شققتَ عن قلبه؟!” كما قال صلى الله عليه وسلم لقاتلِ من نطق بالشهادتين مبديا غضبه واستنكارَه. وهذا ما جعل الشيخ الأكبر مثلا، وغيره من العارفين، يقبلون بالاجتهاد في أصول الاعتقاد ويعذرون المخطئ في ذلك بخلاف غيرهم. وهو يستروح ذلك من قوله تعالى: “وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ” (سورة المؤمنون، الآية 117). ما يعني أن الذي اجتهد في البحثِ عن الحقيقة الإلهية، وأداهُ عقلهُ_ بعد بذل الوُسع- إلى برهانٍ وَثِقَ فيه، وكان ذلك دليلَه “الصادق” إلى ما انتهى إليه من “الحق”؛ فقد يعذره مولاه سبحانهُ، وقد يكون ذاك السعي الصادق مع العمل الصالح النافع للخلق، طريقه نحو النجاةِ وإن زاغ عن إدراك الحقِّ في ذاتِه. وها هنا لا تتطابق الحقانية مع النجاة؛ وها هنا أيضا مدخل شرعي آخر للتسامح الديني والقبول بتعدد الحقيقة الدينية دون الوقوع في التنسيب أو العدمية…”.

“الأنوار لا تتزاحم…من أجل أفق تحريري بالدين لا من الدين”، محمد التهامي الحراق، دار أبي رقراق، الرباط، 2022، ص.293-294.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إحدى عشر + أربعة =

زر الذهاب إلى الأعلى
MCG24

مجانى
عرض