
الباحث محمد الزين يقدم قراءة في ديوان ” مزهريات زجلية ” للشاعر الديبلوماسي عبد الكامل دينية
الإقناع بالعواطف في ديوان مزهريات زجلية كاميليا
ذ محمد زين (1)
لكل أمة تراث هو عنوان شخصيتها الوطنية (2)
في البدء يهمنا أن نشير إلى عناية هذه الورقة المقتضبة كغيرها من الافتراضات المسبقة التي تتبناها جهود الباحثين بجعل القراءة دائما تستمد إبداعيتها من موضوعيتها ، و نحن بصدد دراسة أحد الأجناس الأدبية التي احتلت موقعا معتبرا بمشهد بلادنا الثقافي . وهذا موصول بما ينعت في الدوائر الأدبية و النقدية بالممارسة الشعرية التي تتوسل اللسان العامي، تعبيرا عن رؤية للذات و للعالم و الوجود .
ليس يخفى أن الزجل يندرج ضمن المدونة الشعرية المغربية الموسومة بمظاهر التعدد والتنوع اللغوي والفني و الجمالي. وهذا كله تأكيد على أنه يشكل جزء من الشعر المغربي . فعلا ثمة ما يسوغ محاولة موضعة اختيارنا للمنهج الملائم في صلب مقاربة قد تمد رؤيتنا من منظور ترسمت معالمه لقراءة هذا العمل الأدبي ، بما يتساوق و فرادته في استجلاء الخصائص الفنية.

علاوة على ذلك ، فإن وظيفة النقد ـ كما هو متعارف عليها ـ تنطوي على إمكانات التقويم الفني و تبيان القيمة الموضوعية .. ومن ناحية أخرى تروم كذلك هذه الدراسة التأكيد أن المقاربة من هذه المنطلقات منوطة بما تتبدى به أهمية الزجل كعلامة مائزة شكلت امتدادا تاريخيا و ازدهارا كميا ونوعيا ضمن حركية الأدب المغربي ، استنادا إلى الذاكرة الشعبية الملهمة التي أنجبت هذا اللون التعبيري الأدبي المتشح بلغة و حمولة فكرية و ثقافية و ثراء تكتنزه تعابير شعرية ، أخص خصائصها رؤى تستقي مادتها من اليومي المعيش .
فالزجل إذن ، فن من فنون الأدب الشعبي ، ديدنه أداء جمالي وفق إنتاجية و ممارسة نصية لا يرهقها السعي في النبش عن كياننا الفكري والوجودي واستنطاق القضايا و الظواهر المجتمعية . و الزجل في اللغة ” الصوت “3 يقر صفي الدين الحلي أن ” مخترعي الزجل هم أهل المغرب العربي ثم تداوله الناس بعدهم ” 4 . يرجع ظهور هذا الفن ببداية الاستعمال الاصطلاحي للزجل يدفعنا هذا الرأي إلى تبصر عمق الدقة الأكاديمية في البحث و التمحيص في البدايات الأولى التي عالجها عميد الأدب المغربي 5 مستدلا بذلك إلى إجماع المصادر التي تشير إلى نشأته ” فإننا نجدها تكاد تجمع على أن الذي اخترعه هو ابن قزمان ” 6
وخلال حقبة سبعينيات القرن المنصرم ، وتحديدا سنة 1976 م سجلت ظهور أول مجموعة زجلية بالمغرب ” الرياح التي ستأتي ” للزجال أحمد لمسيح ، ثم تعاقبت إصدارات كل من الزجالين العربي عيشان وحسني الوزاني وادريس المسناوي ومحمد بركات ، والمرحوم العربي باطما وعزيز محمد بنسعد و علي مرزوق.
ومن الأسماء النسائية ، نشير على سبيل الذكر لا الحصر ، الديوان الأول ” طبيق الورد ” للزجالة فاطمة شبشوب الصادر سنة 1997 م ، ثم فاطمة مستعد و فاطمة بلخير الورادي ونهاد بنعكيدة و زهور زرييق.
وهناك أيضا مجموعات زجلية أخذت طريقها للغناء كما هو الحال بالنسبة لمجموعة ناس الغيوان ” كلام الغيوان ” ، أو قصائد مغناة مثل ” جريت و جاريت ” و ” قطار الحياة ” و ” انت دايز طلل علينا ” و ” بارد و سخون ” و غيرها للمرحوم الزجال المغربي علي حداني ، هذه الأعمال الجماعية منها أو الفردية ساهمت في تقريب الفعل النصي وأضفت عليه مسحة من الصور الإبداعية الوطنية التي أغنت الخزانة الأدبية ومعه انخرطت القصيدة الزجلية الحديثة المغناة في سلك المنجز الحديث كجزء من الخطاب الشعري الذي ترسخ في وجدان المغاربة قاطبة وفق منظور غنائي يتصل بالدلالة النفسية و العاطفية و يترجم نبض وأفق انتظار الجماهير .
إن المتتبع لرحلة تحديث الممارسة النصية الزجلية يضعنا أمام ثنائية الصوت و الغناء ؛ هرمنة توحي بالإبداع طربا و تطريبا صقل فيه الشاعر الزجال موهبته ، وهو يترسم معمارية القصيدة من خلال ذاتيته التي تتشوف من أعلى الرابية لما هو اجتماعي و تاريخي و حضاري و إنساني .
أولا شعرية العتبات :
إن العملية الإبداعية عملية واعية و العتبات في الدراسات النقدية الحديثة تجاسر ينقل المتلقي من البناء الخارجي إلى صميم العمل الأدبي يستوجب الأمر النظر في كل ما يحيط بالديوان الشعري أو أي جنس أدبي أخر كالرواية و القصة و قصيدة النثر..، فلا يعدو الأمر مقتصرا على جمع قصائد و نشرها في ديوان و إنما يتعداه إلى استحضار مقامات تصريحية أو مضمرة من خلال الغلاف و العنوان و العناوين الداخلية و المؤلف و الإهداء و التصدير و التقديم و الملحقات و الهوامش ، و هذه العتبات النصية بمثابة النصوص الموازية حسب جينيت في كتابه ” العتبات ” أو الترجمة التي قدمها الدكتور سعيد يقطين ” المناصصة ” في كتابه القراءة و التجربة ، و بذلك تتفاعل لتوصل لنا نسيج الدلالة النصية فتعمل على إرشاد المتفحص و توجيهه للظفر بالمعنى وإدراك المغازي والقدرة على التأويل و رتق الهوة بين النص و المتلقي . و بالنظر إلى النص الموازي الداخلي أي ما ورد محيطا بالديوان نلفي :
1-1أيقونة الغلاف :
إذا تأملنا هذه العتبة البصرية لمعمارية الغلاف الظاهر على الصفحة الأولى للديوان وجدنا مناسبة نشر هذا الكتاب و الذكرى التسعين لتأسيس النادي الجراري ، ثم اسم الشاعر وعنوانا لعمله الإبداعي و لغة ورسالة بصرية شفافة للوحة الفنان التشكيلي ادريس حلمي نحدق فيها لنفهم اجتذاب المتلقي إلى عنصر التركيبة الفسيفسائية للجوهر الإبداعي للديوان . وجاءت اللوحة عبارة عن أنصاف دوائر دالة على الشكل المفتوح ذات المنحى المستوي و على مركزية المسافة الجمالية التي تربط تلقي القارئ لهذه العتبة الممهدة لولوج نصوص الديوان ما اختيارها من طرف الزجال إلا تأكيد الارتباط بالمضمون و التماثل الحاصل في مجاميعه الشعرية وتشرع أمامنا نوافذ النصوص و أبعادها الفنية ، لأنها تحيلنا إلى التيمة الأساس .. ومن خلال مكونات الخطاب الغلافي نستطيع فهم جنس النص الأدبي ، فنجد الجملة الإسمية ” ديوان زجل ” كعلامة لجنس إبداعي وهو الزجل .
2-1سمت المؤلف :
يحمل اسم المؤلف معنى عمله الإبداعي تموضع في أعلى الغلاف ، و هي إشارة لرفعة مكانة الشاعر ليس من باب التعالي و بسط سلطته على القارئ ، ولكن لقيمة هذا الزجال ورصانة أعماله التي نال بها شرف النشر من طرف معلمة معرفية ؛” النادي الجراري ” ، و نجد في ظهر الغلاف صورة المؤلف و بيوغرافية عن مهامه و إسهاماته الفنية و الأدبية التي تتسم بالحضور الوازن في المشهد الثقافي ببلادنا و خارجها .
3-1 إوالية العنوان :
و الحال أن أول ما يبحث عنه القارئ هو استقبال عنوان الديوان ، فيكون ” أول لقاء مادي محسوس بين المرسل و المتلقي ” 7 ، ، فهو سياق مشحون حجاجيا و كفيل بفك شفرات نصوص الديوان و يحمل في طياته علامة تجنيسية و بعدا تكثيفيا يحيل المتلقي إلى تحديد الخطاب الأدبي الذي نحن بصدد التعاطي معه ،وهو من باب ضبط النص و الخطاب . و هذه العوامل مجتمعة لا تدع مجالا لاعتباطية العنوان ، بل مما يصح معناه ويستجاد مبناه . و لذلك فالحد المعجمي اللغوي للفظة النواة بالعنوان تؤدي وظائف وصفية ؛ يقال الزهرية
وجمعها زهريات و أيضا المزهرية “بفتح الميم ” و جمعها مزهريات و هي إناء من زجاج أو من خزف أو من معدن توضع فيه الأزهار أو الورود ، تزين نقوشها و طلاسيمها و خارفها بالفسيفساء الصور، وتتخذ للزينة و شاعرنا الزجال ترك العنوان مفتوحا على تأويلات عاطفية وروحية أصيلة و أنيقة . فالناظر إلى العنوان يتلمس دلالة جمالية آسرة من مخزوننا البصري وعلى ما نعرفه مسبقا لهذا الشكل الجميل المحكم الصنعة و هو مؤشر على نجاح باهر في الاختيار، والأمر الذي أكسب العنوان نوع جاذبية سمعيا وتخييليا نابع و كأننا أمام مشاهد دافئة لمزهريات الرسام الهولندي فان غوج التي تعكس دورة حياة الإنسان . مزهريات زجلية كاميليا تركيب جمع موقر مركوم بعضه على بعض عبقه مهدى إلى كاميليا ، العنوان جملة تجربة شعرية عابقة بلغة راسمة تستحضر باقة جمالية من عيار نصوص ، تنبئ القارئ إلى إعادة تشكيل الواقع ، ومدعاة لتحقيق السمو بالنفس والتوق إلى التبتل و بلوغ أعلى المدارج ، والفسحة المناسبة أن جعل من النص الزجلي معبرا لهذه المكانة باعتباره نسبة إلى ” مزهر ” اسم المكان من “زهر يزهر ” ، يشغل العنوان في الدراسات الحديثة حيزا مهما و مزهريات زجلية تتصدر موقعا مشرفا الديوان و كأن شاعرنا لا يرمي إلا صائبا ، فيعمد إلى إزالة العيوب و إبراز المزايا و.الابتداء عنده صور لثنايا المعنى الأول و موضع الإفادة إخبار عنه لغرض تأكيد إثبات الوجود بعقد تجنيسي يصف و يوحي ويثير عاطفة من يرمق و يتأمل مزهريات الديوان .
4-1 عرفان الإهداء :
يعتبر صدر الخطاب المقدماتي ، و نحن نعلم أن منجز زجالنا الثالث موسوم ب ” هي أمي الحبيبة ” الذي حظي بتقديم أستاذنا عميد الأدب المغربي فضيلة الدكتور عباس الجراري ، إلا أن عتاب محبتنا يسجل غيابا للميثاق الأمومي ، مع أننا لا ننكر وجود هذا الميثاق من خلال إشارات قوية لعدة قصائد في هذا المتن ، و جاء إهداء هذا الديوان رسالة إلى الراحل والد الزجال الحاج محمد بن عبد الرحمن دينية و إلى أبنائه و أم أولاده وجوهرة العقد و عروسة المزهريات كاميليا ، و هي تأكيد على متانة الروابط و العلاقات الأسرية و عرى المودة و المحبة ، هذا إهداء عاطفي و شاعري يمثل وظيفة دلالية تكشف عن المعاني السامية و القصدية التواصلية و الاجتماعية التي تجسدها نصوص الديوان و علاقة الشاعر بجمهوره و هو ما اعتبرناه إهداء من الخاص إلى العام من أقرباء الزجال إلى جمهوره الواسع .
5-1 تقديم :
ابتدأ الديوان بتقديم خصه به فضيلة الدكتور منيرالبصكري الفيلالي ، كلمة لطيفة حول الزجل و ارتباطه بالغناء منذ بداياته الأولى ، هذا النمط النصي يتخذ من اللسان العربي الدارج في الأوساط الاجتماعية المغربية وسيلة للتواصل ، و القصيدة الزجلية تتسم بمقومات ثرية المعجم و تميز المفردات تركز اهتمامه حول الصيرورة التاريخية لهذا الفن اعتمادا على الإسهامات اللامعة لعميد الأدب المغربي الأستاذ الدكتور عباس الجراري ارتباط الزجل بالغنائية و تفاعله الزجال المغربي مع قضايا مجتمعه جعلت الباحث يقدم إشارات إبداعية لبعض النصوص الواردة في متن الديوان ، و هي نصوص تنم عن تنمية الوعي الثقافي وممتلئة بالتوعية توقظ أحاسيس المتلقي ، في معرض حديثه أيضا يؤكد أن عبد الكامل دينية من الزجالين الذين ساهموا في إثراء الأغنية المغربية بقصائد قام بغنائها فنانين مغاربة أمثال عبد الهادي بلخياط وعبد الوهاب الدكالي والراحل محمود الإدريسي والبشير عبدو وعزيز حسني و أمل عبد القادر و فاتن هلال و آخرون .
6-1 الهوامش :
الهوامش الدائرة بمنزلة التفسير ، سيقت أدناه وهي ركن ركين للعملية التواصلية بين الشاعر و المتلقي ؛ أمر تمله ” ضم التاء و تسكين الميم و كسر اللام ” الحاجة إلى تفسير سياقات إنتاج النصوص و تاريخيتها وظروف كتابتها و المناسبة التي جادت فها قريحة الزجال فيحصل المراد منها و هو تقريب المعنى وإيصال حجيته ليستطيع القارئ تذوق القصائد .
7-1 انطباعات :
في هذا المجال ، أشار الدكتور محمد التهامي الحراق إلى تنوع هذه المزهريات معنى و مبنى و تشكيلا و أفقا ، يكشف الديوان ألوان التناصات و التثاقفات التي تعتمل فيها سواء مع الأمثال الشعبية أو مع الذاكرة الشعرية الصوفية ، كما أشار لقيمة الوفاء التي تشكل الوحدة العضوية لقصائد الديوان .
8-1 ملحق :
وقد تضمن قصيدتين رفعتا إلى السدة العالية بالله أمير المؤمنين جلالة الملك محمد السادس نصره الله وأيده و يحمل الملحق كذلك رسائل جوابية من جلالته .
ثانيا البعد الحجاجي في ديوان مزهريات زجلية كاميليا :
إن لغة الزجل الشعرية لغة جذب نجد صداها في الذات بمثل ما خوطبت به ، تفعل و تنفعل و هي كيان يتجدد و يتطور باستمرار و هي أيضا موئل طاقات للتأثير في نفوس سامعيها و” صناعة يتكلف فيها الإقناع للجمهور فيما يراد أن يصدقوا به ” 8 ومعه تتجسد المعاني بشكل أكثر فعالية و ينظر إليه من وجهة تأثيره ولأن الشعر ينبوع العواطف و العاطفة تنبعث عناصر دالة و منطلقة من الأنا الواعية بوجودها وبواسطة اللغة بنية و وظيفة حوارية و المظاهر الحجاجية ، أفعال كلامية تحمل قوة من داخل اللغة الزجلية . وأول البدايات القابضة على اليقظة تعاين موقعها و موقفها من الأشياء و الناس و التجارب و تفتح أفقا لكينونتها نحو إدراك نقاء الذات . و للشعر انفراد بعالم لغوي ينصهر معه المألوف بطريقة غير مألوفة تمارس الدهشة ، إنه غوص في كوامن الذات تتقرى مطامحها ، إنه تشكيل خاص يقود الحقائق اللفظية إلى عمق الأفكار في أبهى صورة تكسوها بمعرض حسن حتى تتهيأ لشاعرنا فننال من فهمها حظا أيسر و نتفيأ ظلالها ، فما أجدره بالقول :
حر الزطمة
غلطتي معايا شلة غلطات
و زطمتي فالحوض شلة زطمات
و من حر الزطمة العين بكات
قطعتي الواد و نشفو رجليك
تقادو لكتاف و تحلو عينيك
و نسيتي كيف كنت أيام زمان
الصدمة قوية معاها القلوب دمات
فنات وادات طرف من الذات
و حتى المحنة ضاعت و مشات
و خلات فقلبي شلة علامات
كيف قلبي ينسى حر الزطمة
كيف عقلي ينسى حر الكلمة
ضاعت المحنة و البسمة
و ضاعت معاها حلاوة اللمة ص 63
يبدو أن النص هزة و تطريب ، نسيج متماسك ، واسطة عقده النضيد القصدية و المقبولية ، فهو ليس مجرد جمل بل يشار إليه بالبنان ” سحرية ” 9 يتحقق داخل مجالات اجتماعية و ثقافية و أدبية ، فنصوص زجالنا الشاعر عبد الكامل دينية بنيت على هذه العناصر السالفة الذكر و تضافرت لتشكليها ذاكرة ذاتية منفتحة على فسحات تفاعلية تكشف جانبا من خوافيه ” كل عمل أدبي حينما يكون له شكل مكتمل و مغلق في كمال هيأته المضبوطة بدقة ، فإنه عمل مفتوح ، لأنه – على الأقل – قابل للتفسير بطرق مختلفة دون أن يؤثر ذلك على تفرده غير القابل للاختزال ” 10
هو أيضا نص شعري غني بأسلوبه و دلالته .. والأبعاد الحجاجية في الشعر لها صلة بموقف زجالنا الفكري و العاطفي الحجاج علو لمدى مكنة ” بضم الميم ” المتكلم على التأثير في السامع أو المتلقي بما يضمن تصريحا أو تلميحا في رسالته من خصائص تأثيرية أو منطقية أو عاطفية لا يزعها وازع بأن يعنو لها المستمع و يذعن لنبض ما يقوله الخطاب أو النص . لا ندحة للباحثين من ربط الحجاج بالمناظرة و بلا توجس لكونه يدلف إلى مقابلة الحجة بالحجة في سياق المخاصمة و المنازعة 11، لا ضهي لهذا الطرح لأننا نكنه حقيقته من وهيج المعجمية العربية ، ذلك أن فهم معناه اللغوي لا محالة قد حسم تحديده في معرفة دلالتها الأصلية انطلاقا من البحث في أصل الكلمة ، و جاء في اللسان ” حاججته أحاجه حجاجا و محاجة حتى حججته أي غلبته بالحجج ” 12 و وردت عند مرتضى الزبيدي أن” الحجة : الدليل و البرهان و قيل ما دفع به الخصم . و قال الأزهري : الحجة الوجه الذي يكون به الظفر عند الخصومة ” 13 و من خلال ما سبق ذكره ، نستنتج أن التعريف اللغوي يشف عن مناطق متاخمة لأنواع الحجاج ، فلا يعمد إلى تحديد يضبط جغرافيته بالنظر إلى اختلاف مجالاته باختلاف صنوف المنطق أي الجدل و البرهان و الخطابة و السفسطة والشعر ، و كان من البدهي أن تقوم دعامات الحجاج على التباين من حيث قصديات المنطلقات و تعدد الأجناس الحجاجية و لكن ما يهمنا قراءتنا يترافق مع حاضنة المادة الشعرية التي تحمل النفوس الإقناع على فعل شيء أو اعتقاده أو التخلي عن فعله و اعتقاده . سيقول قائل ما مبرر الحديث عن الحجاج في سياق هذا اللون التعبيري ؛ أي” الزجل ” ، نجيب بأن له ما يسوغه لكونه شكلا من أشكال التعبير الفني و شعرا ينبني على التشكيل و التصوير يقدم رؤى و مشاعر و أفكار و انفعالات من زاوية قدرته الفعالة على التأثير في النفوس و جعلها تنصاع لمقتضى القول الشعري و ” أن الحجاج لا يقتصر على الخطابات ذات التوجه الخلافي القائم على المنازعة و إنما نجد له بعدا في الشعر أيضا ” 14 هذه النظرة الساجية دافع لنا للبحث عن مقاربة بلمظة حجاجية لديوان ” مزهريات زجلية كاميليا ” من بوابة الكيفية التي ينتج بها زجالنا قصائده ويشكل لغته في الاستعمال الشعري . و هذا المتن يتيح لنا ترجمة نبض نصوص شاعرنا عبد الكامل دينية محاولين إيجاد آليات تساعدنا على ترك مساحة رحيبة للنصوص لجعلها تبوح بقسط زاخر تدعمه حقيقة حجاجية تتماهى مع اللغة الشعرية و الذائقة الأدبية لشاعرنا الزجال .
2-2-1 منطلقات الحجاج في قصائد الديوان:
والحق أن مرامنا مما رامه اقتفاء أثر المنطلقات الحجاجية أساسا بدءا من كونها مسلمات يقبل بها الجمهور و شأن الاعتبار في تلكم المرتكزات التي تدعم الإقناع لدى المخاطبين ، و القيم من صميم هذه الجدوى إنها تختص بالإنسان و المشترك الجمعي فتكون بذلك موضع إجماع في إطار كلي و كوني يظهر أثره على الصورة الحياتية للمجتمع . و القيم من أسس الإنسانية و تصدعها يمنح زجالنا إمكانات التأثير بمقتضى القول الشعري لما تتضمنه الجوانب العاطفية و العقلية من وسائل نجاح العملية الحجاجية .
2-2-2 قيمة التسامح :
قيمة إنسانية تشير إلى الصفح و العفو و التجاوز و التغاضي ، كلها خصال تضمن العيش القائم على المودة وهي ضد العنف و الإكراه ” لا إكراه في الدين ” 15، و التسامح إصلاح و ثقافة وفلسفة و سمو للذوات و رقي بها إلى مدارج السلام و لقد اهتم شاعرنا الزجال بهذه القيمة و ظل منافحا عنها لأنها تنطوي على رسائل توطد العلاقات الاجتماعية و تسلح الأفراد بالحلم و السماحة لكي يعيشوا في مجتمع يسوده التآخي والمحبة على مختلف المجالات سواء دينيا أو اجتماعيا أو ثقافيا ، نجد لهذه القيمة حضورا لافتا في متن الديوان . ظل الشاعر بطريقته الإبداعية مسالك يحثنا على الالتزام بهذه الوظيفة القيمية من خلال قوله:
و اليوم هدمنا العش و طار الحمام
فين العم فين الخال
فين الجيران فين البقال
كلشي راح و تبدلت الأحوال
رجانا فالله اشملنا يتجمع
بلا نفاق بلا طمع
تعود الفرحة و البسمة ترجع
و نعيشوا حياتنا فراحة وسلام
ربي يا ربي لا تخيب رجانا
سعدنا يكمل و يزول بلانا
و رجانا فيه يكون معانا
حتى يجمع شملنا على الدوام
ص 61
تعتبر هذه الأبيات احتجاجا عاطفيا و فكريا ، فتتجمع الكلمات ضمن وحدة شعرية حقيقية التي هي الجملة /الموضوع ، و هذه الجمل حبلى بمفردات لها معان مجتمعة في عباراتها و أساليبها الساحرة و المشحونة بمشاعر الأسى و الحسرة على الواقع اليومي المعيش المليء بالصراعات و النزاعات و الأطماع و الضغائن
و الميل إلى التفرقة ، و بدون استحضار شيم التسامح لن يحفل أفراد المجتمع بحياة آمنة و مطمئنة .. ولأن التسامح أيضا الصوت الذي نحتاجه في هذا الواقع المشتت ، ينهض الشاعر بقيم السلام لأنها جزء من النظام الاجتماعي لا غرو أن يقدم لنا الزجال رؤيته بتأثير من المجتمع لتجد أبياته حرصا شديدا على ضوء المنطوق الشعري و على بيان دلالته ، ففي ضوئها يغدو الأمر بجلاء و تطفو إلى السطح حجة تزيد من تعضيد خيار التسامح للحفاظ على دور الأخوة و القرابة و تماسك عرى العلاقات الإنسانية والاجتماعية.
2-2-3 الإقناع بالعواطف :
الفاحص لنصوص الديوان يستشف رسالة شاعرنا الواضحة حينما يبدي رأيه بلغة زجلية نابعة من عاطفة قادرة على الإقناع :
وقف حدك تمة و ثبت الله يهديك
لا تبالغ فالزطمة و لبس قدك يواتيك
لا تفرط فالكلمة و الريح اللي جا يديك
خوفي عليك من الصدمة و الصدمة كاينة و تكون
خوفي عليك من الظلمة و فالظلمة تبقى مرهون
خليك صادق و همة و الصادق عمرو ما يخون
ص 68
و الزجال كقوة و هوية تلفظية يمتلك آليات الإقناع الأكثر تواجدا بحسب الأفعال الممكنة ، و يهمنا من الاستشهاد بنماذج قصائد الديوان ما يمت بصلة إلى الحجاج بالعواطف الصادقة و الملكة العقلية ، يقول :
إلا كنت راجل خليك شان و همة
إلا كنت عاقل خليك عند الكلمة
و إلا كنت جاهل وقف حدك ثمة
ص 136
و تسجيلا لعواطف الشاعر تمثيل لطبيعة نفسه النبيلة و العفيفة بعيدا عن كل تفسخ أخلاقي يبوح بما يكنه قلبه تجاه محبوبته بشعر صادق و بلون وجداني عاطفي بكثافة تعبيرية مطواعة ، و الغزل من الأغراض الشعرية التي يتخذها الزجال لاستمالة عواطف المتلقي :
انت الذهب المشحر
انت مسك و عنبر
و عطور فايحة فكل مكان
انت الورد و الزهر
و انت مشموم معطر
و أنسام عليلة تعطر المكان
سبحان من ابدع و صور
و خلاكي تاج منور
و شمعة ضاوية بين التيجان
ص 87
يضيف :
قلبي بيك متولع موحال ينساك البال
امتى فجري يطلع و نذوق حلاوة الجمال
ص 126
و ما يضفي على قوله غنى و طلاوة و صدقا و ميلا للإقناع من وحي خلجات شاعر نجده أكثر إلحاحا لكي يستمر الود لكن لا نجد ردا بالإيجاب :
ما بغيت شمعتنا تضفى و تشفي فينا دوك العديان
ما بقيت قلبك يجفى و يضيع غرامنا مع الاحزان
ص139
أضناه البحث الدؤوب عن وضعية مستقرة و حالة نفسية و عاطفية جيدة :
تهولت عليك بالليل و النهار
بهونت عليك فمسا و صباح
لا القمرة عطاتني لخبار
و لا ضي الشمس تداوي الجراح
رجايا فالعالي كاشف الأسرار
نعيش حياتي هاني مرتاح
ص 138
يقول أيضا :
كيف قلبي ينسى الهلال و عشقي ليك واضح معلوم
نحكي و نقول بلسان الحال ما بغيت نعيش معاك مهموم
ص 121
يتمنى عودة محبوبته لتزول أحزانه ، يقول :
وقتاش يرجع لي الحبيب و تعود الفرحة لمكاني
وقتاش ننساو العيب و يعود قلبي هاني
الدنيا قسمة و نصيب و الحب الأول ما عندو ثاني
ربي عالم بالغيب و انا راضي بكل ما اعطاني
ص 132
أيضا :
بغينا نجمعوا الشمل
نفرحوا و سعدنا يكمل
و ضو القمرة يشعل
و اللي ليها ليها
بغينا حبنا يرجع
و شمس المحبة تسطع
و ننسى كل ما وقع
و اللي ليها ليها
ص 130
لا نجد ردودا تبعث على التفاؤل بقدر ما نجد أمامنا قدرا و حتمية لا تخطئها العين و إنما شقاء يعانيه بعد طول انتظار و حلم و إظهار لشيمة الصبر و عدم التسرع في إصدار حكم ؛ و مع هذا كله فلا نسجل إلا صدودا وغدرا :
دابا عاد عرفتك و عرفت راسي مع من
دابا عاد فهمتك و افهمت اشنو كاين
عانيت معاك و منك و قاسيت شلا محاين
و عييت مانسمح لك و قلت شي باس ماكاين
و اليوم عاد عرفتك و عرفتك باللي خاين
ص 140
يصور الشاعر استحالة العيش مع طرف أخر أناني و مغيب عنا نجهله و لا نعرفه إلا من خلال توصيف الشاعر لردود أفعاله :
كيف يمكن لي نعيش معاك وانت فطبعك إنسان أناني
كيف يمكن لي نكون حداك و انت باغي تعيش وحداني
ص133
و بعد أن رسم لنا الشاعر مأساته و أرهقه مخاطبة عادلة بلمح فيها حضورا لطرف واحد ، فهو بلا يأس مؤمن بالقدر بعد أن ضاق صدره و عصفت به تجربته :
اللي مكتاب و مقدر
لازم منو يا إنسان
و اللي فنيتو الغدر
خليه لعظيم الشان
ص 127
سهام الصدود مصمية و غصص الحب مردية تفتت الأكباد يقول :
هي غلطة وكتابت علي ما نويت بها ماقريت حساب
الله وحدو عالم ما بي و من غيرو يا سيادي كذاب
ثقت فيه و عملت النية ملك روحي و قلبي ذاب
صادقتو و لعب بي صبرت و رضيت بالمكتاب
هذا اللي كتاب علي و طاحت يدي فالتراب
أنا عملت اللي علي و الاخر فينا يسد الباب
ص125
ليس بالبعيد عن الواقع الذي رصدناه لحالة شاعر متأثر لا يعمل على تزييف الحقائق ، بل ظل محبا وناضجا بغية تخليص ذات محاوره ليمنحها تحررا وفق قول ذي صياغة و قدرة بارعة برقة و شفافية :
عندي معاك هضرة و كلام ساكنة فقلبي هادي سنين
ما بغيت غيار و لا خصام بغيت حب و قلب حنين
ما بغيت سحاب و لا غيام بغيت الفرحة تعم فالحين
بغيت نعيش ما بقى من ايام فراحة البال و الكلام الزين
حياة جميلة فايضة بالغرام ما فيها حزن و لا أنين
ص 123
و القارئ لباب الغزل عند زجالنا عبد الكامل دينية قراءة متأنية لن يجد بدا من الإشارة أنه أسبغه على اللبس لأننا لا نقبض على هوية الخليلة و لا نستطيع الجزم بكون هذه العاطفة الموجهة لها ضمن مجال مؤسسة الزواج أو أن غزله هذا يحمل معنى أوسع ليدل على سياقات أخرى كان بالنسبة لنا كأبعد تقدير تجسد في مضمون شعري عبر عنه الزجال بحب الوطن .
2-2-4 استدعاء التناص :
وفي ذات السياق و تجلية لهذه الغايات و المرامي نقرأ بعضا من نصوص الديوان فتحضرنا المدونة الدينية لتشكل مدخلا تناصيا و آلية ملازمة للملكة الإبداعية تخدم البعد الحجاجي الإقناعي ومن كوة الفهم ما يسبق التفسير ، ولا يثوي عناء لمن يود تفهمه ، نجد قصيدة ” الله جميل ” في تناص جلي مع حديث رسول الله الذي أخرجه مسلم في صحيحه و أحمد في مسنده و المراد منها جمال الأفعال و الأعمال و الأخلاق ، كلها أعمال لرياضة النفوس على النبالة فتكون ألسنتنا مدعاة للصدق و قلوبنا جسرا للمودة و التراحم ، و جوارحنا خالصة للطاعة ، إذن داخل فضاء القصيدة نلفي ملفوظات تحيل على نص أخر فيتداخل المكونين معا ليشيدا عالما أكثر قدرة على الإقناع ، يقول في مطلعها :
الله جميل يحب الجمال
هو عين الرحمة و منبع الكمال
هو مفاجي كربي فضيقة الحال
و رحمتو واسعة و كبيرة فكل حين
ص 21
تجمل القلب و الروح و النفس تهذيب و تزكية و إيقاظ للهمة العلية ، بها يسعد الإنسان في دنياه و الشاعر يدعونا أن نتخذ الجمال مرافقا لجل مناحي الحياة و هذه الفضائل تستطاب و ينال بها الفرد حرصا فيها و جريا عليها رضى الله و رضى الوالدين ، يقول :
خليك جميل فحياتك يا إنسان
و خلي الجمال عشيرك فكل مكان
تعيش هاني مرتاح فدنيا الأمان
و تنعم برضاة الله و رضاة الوالدين
ص 22
حب الأوطان من الإيمان ، يقول الشاعر في قصيدة ” مغربنا زين ومنور ” :
حبك يا بلادي من الايمان يا أرض المحبة و الخير
و مقامك عالي بين البلدان نعمة كبيرة و خير كثير
نورك فالعالم شاع و بان و اسمك مكان كل تقدير
زينك يا بلادي باهي فتان و جمالك فيه الأذهان تحير
و اللي زارك يمشي فرحان حمدنا الله العلي القدير
ص 41
2-2-5 استدعاء المثل :
لجأ الشاعر إلى استحضار المثل الشعبي بالنسبة للعناوين الداخلية لمجموعة من قصائد الديوان من قبيل : ” الطمع طاعون و اللي غلب يعف و حتى زين ما خطاتو لولة و طاح الحك و صاب غطاه و كبرها تصغار ”
ورد عنوان واحد لمثل عربي فصيح و هو ” دوام الحال من المحال ” و المثل حجة قائمة على المشابهة وركز على الحقيقة لأنه أكثر إثارة للتصديق و أوفر قدرة على الإقناع لأثره الفني و محتواه القيمي واستجابة لحاجة إقناعية ، ففي طيات النصوص تنكشف خبايا النفوس .. و تطل من الأعماق ومن الهواجس والعواطف والانفعالات الواقعية ، للدلالة على نبذ شاعرنا الزجال الخصام بين الناس و تخليص النفس من الشرور والخداع و الصفات الذميمة ، والدعوة إلى الخصال الحميدة و المودة و لدعم القضايا التي يدافع عنها ، و هو استدلال خطابي وظفه الزجال قصد الإقناع بتغيير سيكولوجية المتلقي و التأثير على سلوكاته و أفعاله و هذا الطرح وارد في باب الاجتماعيات حيث ترك الذات تتحدث عن نفسها أو ما لحقها أو من نسغ تجارب الناس ، يقول :
قالوا اللوالا الطمع طاعون و الطامع فالدنيا قلبو مملوك
كثرة الحيالة و البال مشطون مع الفتنة و الوجه المشروك
حالتو حالة و العقل مفتون عايش تايه فحياتو مدروك
ص 64
2-2-6 التكرار :
تجليات التكرار شكل أسلوبي جمالي وإلحاح ينتظم وفق إيقاع شعري تعبيري متسق و رنان صداه يتردد في ذهنية الشاعر و لذلك عمل على تبيانه و هو يحثنا على التمسك بالقرآن لما نجتنيه من معرفة ولأنه دستور الأمة و ربيع القلب و جولانه و هو عماد رقينا ، يقول :
قرآننا مهد الصلاح
كتابنا هو القرآن
دستورنا هو القرآن
عمادنا هو القرآن
ملاذنا هو القرآن
أنيسنا هو القرآن
ص 30
و لو شئنا في موضع أخر لوجدنا يقول :
لا تهز دبيلة و لا هم و اعمل يقينك فالحي الرحمان
ص19
ثم غير بعيد من سابق ما نقتفيه و أمثلة ما نحتذيه:
لا ترفد دبيلة لا تهز هم
ص 21
نعلم أن الجملة الإسمية تفيد الثبوت والحالة الدائمة و القرآن صالح لكل زمان ومكان و هو نعمة ومعرفة والعمل به عنوان صلاح الأحوال الفردية و الجماعية ، إذ به تسمو الإنسانية و يطيب اللسان بذكره ، فهو سر نجاحاتنا ؛ لا تبدد أحلامنا و لا تطبق علينا الكوابيس ، نعيش في عالم متزن غير مختل :
قرآننا خير مفتاح
قرآننا سر النجاح
قرآننا نبع الفلاح
قرآننا نور وضاح
ص 29
2-2-7 تجليات الذات المحاججة في المتن :
المتكلم حجة بأخلاقه و فضائله و طبيعة شخصيته ” و لا بد للخطيب أن يتحلى بثلاث خصال كي يحدث الإقناع ..و هي السداد و الفضيلة و البر .. حتى إن الخطيب الذي يبدو أنه يملك هذه الخصال الثلاث سيقنع سامعيه لا محالة ” 16 ، يتعلق بأخلاق الخطيب أو المتكلم وسيلة من وسائل الإقناع العاطفية لأن شخصيته تبعث في نفس السامع الثقة و الاطمئنان فيما يقول ، إذن كلها صفات و أخلاق متى أظهرها الخطيب خدمت مقصده و أسهمت في تحقيق الإقناع و لهذا ينبغي أن يكون موضع قبول لدى المتلقي خلال بث خطابه . الإيتوس هي الصورة التي يعطيها المتكلم عن نفسه في خطابه لضمان فعاليته بدون حديثه عن نفسه بطريقة صريحة أي أنه يتحدث عن مظهره الخارجي أو عن أخلاقه ، أعيد تناول الإيتوس في التداوليات و تحليل الخطاب ، انفتحت اللسانيات على الإيتوس أو صورة الذات في الخطاب التي أعادت الاعتبار للمتكلم و عملت على تقريب المسافة بينه و بين المتلقي لتيسير عملية الإقناع و المراد إيصال صورة إيجابية عن المتلفظ .
و أول النحت و التحبير صناعة المسافة الجمالية بين الأنا الراسمة و الأخر المرسوم ، أو لنقل الذات موضوعا للتشكيل لهذا الوجود داخل شرط الواقع المعبر عنه في سياق قصائد الديوان و ذوات الآخرين و نفثات زجالنا تكشف عن سماته و صفاته المتعلقة بالأحوال الباطنية لذوات تتشذر وتتشظى يسهم إبداعه إليها فثوءا ليكسر حدة القلق و التوتر :
تمنيت نعيش فعالم جميل بلا حروب بلا دمار
عالم ضاوي كيف القنديل يضوي الكبار و الصغار
تنحدى الحدود و العراقيل و نحطم جميع الأسوار
تمنيت نشوف كل إنسان عايش فأمن و أمان
تمنيت نكون ذاك الفنان و نغني جميع الألحان
تمنيت نعيش لحظة حنان موسومة بأجمل عنوان
ص 134
إن أخلاق المتكلم تكسب المقول مصداقية و عنصر ثقة له دور كبير في تحقق الإقناع ، و استراتيجية حجاجية تعمد إليها عدد من الخطابات بكيفيات مختلفة ، فهو مرتبط بالصورة الخطابية و بالصورة الجاهزة عنه و بأخلاقيات الخطيب في الخطاب أي الصورة الأخلاقية التي يقدمها الخطيب حيث تسهم سماتها في خلق مصداقيته من أجل تدعيم القوة الإقناعية في الخطاب و الأس الأساس هو مشاركة الفكر هموم الذات ذات الشاعر المتكلمة في امتدادها الواسع ” الأنا ” و الأخر و الذات الوطنية و الحضارية ، نظر في عمق القصيدة الزجلية الموجهة للغناء صوت صادق و عميق أعطى هويته الخاصة تمثلت في إخراجه الزجل من التسلية والفرجة إلى عتبة أخرى الانصهار في قضايا الإنسان و المجتمع و من ثمة فالإيتوس الذي يؤسسه المتكلم يغذي هذه النتيجة و يدعمها ليكون خادما و تابعا لها ، المتكلم ذات غير منفصلة عن خطابها ، تكونت في ذهنه نتيجة معرفة و دراية بالواقع و لذلك يستمد قيمته من السلطة التي يحظى بها المتكلم و تكون قيمة الخطاب وتأثيره في السامعين مرتبط بشخصية المتكلم ذي إيتوس مؤثر ، فالمصداقية الأخلاقية شرط ضروري لقبول الحجة ، إن الهدف من استعمال الإيتوس في الخطاب الحجاجي ؛ هوالدلالة على تأثير الذات في الآخرين و أن كل خطاب يقدم صورة عن الذات فإن صورة الذات تصبح شكلا من أشكال الإقناع والتأثير و التي بها يمكن إيصال ذات الشاعر إلى المتلقي بكل سهولة ، و الآن نرصد تجليات الإيتوس في المزهريات من زاوية مغايرة تتقصد المناصحة و المشاركة الوجدانية للمخاطب :
يا مفرج الاكدار فرج لي كدري و شوف من حالي يا منان
ص 24
يدافع زجالنا الأستاذ دينية عن القيم الفضلى ، وينبذ الخصام و يذم بعض الأفعال المشينة ، و هي دعوة صريحة تستند على الفضيلة و الحكمة و التبصر و كلها قيم مؤثرة تخدم أغراضا إقناعية :
خوفي من الدنيا لا تغدر
خوفي لا يتقاضى العمر
و يزيد الهم و يكبر
ص 59
لا تبرم و لا ضجر في استناد فهم دلالة سياقين يدفعان القارئ للإمتاع من خلال الفنية الشعرية لأسلوب سلس وممتنع و شفاف ، يكسب المعنى عذوبة إقناع ، فالإمتاع عند الشاعر ضديده الإقناع مستمران في الحركة ، فهما بالنسبة إليه إطار واحد :
ما بقات محبة و لا خاوة
و ما بقات فالدنيا حلاوة
و لا قلب رحيم يواسي
و كلها يقول راسي يا راسي
ص 69
و في ذات السياق يعمل الزجال على تجنب وقوع الكلمة في وهدة الكذب و الفرية المنبوذة ، إنها تفجير وتشتيت لا يحيي رميمه إلا إعادة النظر في علاقاتنا الإنسانية ، فبمجرد أن نتكلم فهذا جزء من وجودنا عبر ما نقوله و له صلة وطيدة بعلاقتنا بذواتنا التي نعرضها على إدراك الآخرين ، ففعل الكلام عند زجالنا يقوم على تقديم الذات بشكل تأثيري في الآخرين ، ومنه تصبح صورة الذات شكلا من أشكال الإقناع يقول :
ما راعيتو لا عهد لا ميثاق
و ما بقات فيكم مروة و لا مذاق
شلة هضور و شلة زواق
و شلة كلام و خديعة بين الرفاق
ص67
2-2-8 الإيتوس المقول :
إن الذات المتكلمة تقدم نفسها للقارئ و تحيلنا على المتلفظ ، فنتعرف على شخصيته و صفاته الأخلاقية و الاجتماعية و النفسية مما يجعله مؤشرا قويا لعنصر الإقناع و هذا المظهر في خطابه مطابق مع حقيقته الخارجية ، و هو ما تنشده قصائد في الباب الديني من الدعوة إلى التمسك بحبل الله و اعتماد النهج السليم و القويم لكي ننعم بحياة كلها خير وسعادة :
شد فالله و من غيرو كذاب هو الحي خالق الأكوان
أولنا نطفة و أخرنا تراب و الدايم الله الواحد المنان
شد فالله يتفتحو الأبواب تلقى الخير فساير المكان
ص19
يجسد شاعرنا الزجال عبد الكامل دينية إيتوس القارئ الجاد للواقع الراهن و من اللفتات الجيدة و الإشارات اللطيفة للعبارات التي يستعملها المتكلم على نهجه المعتاد دلالة و اهتداء إلى سياقات أنتجت فيها ، و نجد لدقة اختيارها تعليلا كافيا للدفع بالمعنى المراد بلوغه و تقوية تعيينه لتوضيح موقف المتكلم من كلامه لاكتناه مدى المطابقة لما يتلفظه الشاعر و الكيفية التي يبسط بها إبداعه بموجب صوغه للأحداث التي تومئ بظلالها إلى المعنى ، سيما عندما يخرج الزجل من دوائر الإمتاع إلى أفاق الإقناع تكون الرسالة الأدبية نهوضا به و يسبر الشاعر الزجال منبها السامع إلى الذات المتسائلة في جمالية مدهشة ، و في معرض حديثه عن إظهار لحقيقة شخصه الفاضل الذي لا يتوانى قط في توجيه كلامه صوب تمثلات الإنسان المغربي المعاصر و لذلك يخاطب بذاته المتكلمة الأخر قصد التأثير فيه و تذكيره بجادة الطريق :
خاف الله بلا ما تخمم و دير بحسابو يوم الميزان
فوض أمرك لله و اعزم تلقى الخير فجميع الطرقان
واقصد الله فساعة الغم يتفاجى كربك تغيب الاحزان
عش حياتك مع الله و الزم ذكر الله و كتاب القرآن
يزيدك من فضلو و تغنم فضايل كثيرة بالإيمان ص.19
قول شعري ينبني على خلفية خدمة هدف أخلاقي ينحو حجاجية تسعى إلى التغيير و الإقتناع بالاستجابة، ففي صيغة طلب الفعل منح الزجال قصيدته تنغيما دافئا يلتمس خصيصة أخلاقية قادرة على الحمل على الإذعان على وجه الإلزام ” خاف ، دير ، فوض ، اعزم ، اقصد ، عش ، الزم ” ، و هذا الإيتوس يشير إلى المخاطب باعتباره ذاتا للملفوظ وفي نفس الوقت يتوجه إلى ذاته المتلفظة بهذه الأفعال أي أنه ينطلق منها ليوصل توجيهاته إلى المتلقي و هذه الإمكانية حجة على نتيجة انضواء الشاعر مشاركة و مطاوعة للمتلقي في نفس المستوى القيمي للامتثال المنشود و بالتالي فهو يتطابق مع الخطاب مطابقة تامة وفق كفاية الصلاح الذي يفترض بداهة حضوره في مثل هذه السياقات و هو في الفرار إلى الله و التقرب إليه و الفضيلة ، وهكذا يسخر الزجال حجاجية ناصعة في ذاتها على أساس وقائع و حقائق و اعتقادات و قيم من دون أن يميط اللثام عن الأبعاد الفنية و الجمالية للقصيدة . إن الشاعر لا يمارس فعل التأثير و إنما يحاجج في سياق إنساني اجتماعي حتى أننا لا نفصل بين الإيتوس الخطابي و الإيتوس الجاهز لشخصية شاعرنا و سمته و سمعته الموقرة وسعيه الدائم إلى النصح والإرشاد :
خوفي عليكم من ضيقة الحال تغرب الشمس و يطيح الظلام
ماينفعكم جاه و لا مال غير رحمة الواحد العلام
اوصيك يا إنسان رد البال احضي راسك و شد اللجام
كثر من الحمد و صالح الأعمال تلقى الخير على الدوام
ينجينا من شر الأهوال و يعطينا جميع حسن الختام
ص 80 /81
غير خاف أن الذات المتكلمة و المحاججة حاضرة عقليا و فكريا و عاطفيا و وجدانيا ، كرست قولا متفردا لشاعرنا الزجال من خلال التموضع الجيد جنبا إلى جنب مع مخاطب ، فاستطاعت بذلك أن تشحذ أذهاننا بسحرية إقناعية .
2-2-9 انفعالات المتلقي ” الباتوس ” :
الباتوس هو العاطفة المستعملة خدمة للتأثير في الأخر و في الأحوال النفسية للسامعين و ظروف تلقيهم الخطاب و مقامه ، إن الغاية من البلاغة الأرسطية هي إقناع الأخر و التأثير فيه ، فالذات التي نخاطبها تحركها نوازع و معارف و أهواء و انفعالات ، و كلما تمكنا من الإحاطة بمرجعياتها و كانت لنا دراية عميقة بمعرفتها تسنى لنا الظفر بالحجاج اللائق و ” الباتوس هو ما ينزع إليه إنسان نزوعا طبيعيا ” 17 و يتكئ على القيم الذاتية و الانفعالية و الحجاج من شأنه أن يهز الذات التي يعنيها الخطاب :
الله الله على ايام زمان الخرجة بالجلابة و اللثام
جلابة تحير الاذهان و القب على الاكتاف يلاغي الكمام
لباس تقليدي همة و شان جمالها أصيل بطبعه فتان
لبس كيف بغيتي رجال و نسوان لبيسة جميلة تواتي المقام
حلات الجلسة و طاب السلوان و مع الأحباب نتفكروا الأيام
ص 77
555 أرسطو فن الخطابة ، ص 29 / 30
و لتجسيد العاطفة حجاجيا ، فالانفعالات التي يثيرها الخطيب بمصداقية و قبول لدى السامع تمكن زجالنا من تهيئة المتلقي لتقبل ما سيذعن له من خلال ما صرنا نفتقده في زمننا هذا ، بل صار” نوستالجيا “، فهو العارف بسيكولوجية الإنسان المعاصر و أحواله النفسية :
طاح الصرف و طاح الميزان
بنادم تلف رجال و نسوان
و العقل خرف و غرق فالنسيان
ما بقى ما تعرف الخايب من المزيان
الناس تلهف تجري جريان
ص 79
زجالنا عبد الكامل دينية خبير بما بمعرفة ما يحرك عواطف قارئه ، فيضعه في صلب التحولات الاجتماعية التي ثارت على القيم ووضعت شاعرنا في حيرة و انفعالات حادة يحصل معها اقتناع تام أننا نعيش في زمن عديم القيمة :
الناس فهم الدنيا فنات
البال تشغل و المادة طغات
و لا بغيت نفهم راسي
هذا زمان ما عندو ساس
ما تعيش هاني ما تهز راس
ص 70
خاتمة :
قدمنا في هذه الدراسة نفسا حجاجيا للذات المتكلمة التي خبرت الحياة الاجتماعية المعاصرة ، وتشبعت بقيم ذاكرتها الشعبية القديمة و عبرت عن هذه التجربة الإنسانية بواسطة متن استوعب هذه التأملات واختار له الشاعر جنسا أدبيا نازحا من عمق الوجدان المغربي ليسعفه أن يجمع بين الإمتاع و الإقناع من خلال زجل مترع بالشعرية و بينا كذلك أن القصائد على نزارتها جمة الفوائد ، و تناولنا بتوقد واتقاد الإقناع بالعواطف من خلال مجموعة من الإيواليات التي تكسب القول عند شاعرنا الزجال عبد الكامل دينية قوة و فعالية مكتملة البهاء و مفعمة بتجليات الاحساس بالذات و العالم بحيث يصير الشعر تجسيدا لهذا كله ، مسترشدا بتلك
الصورة التي تعينه على إغناء الأفهام بعدما قويت في مخيلته نتيجة سعيه إلى وضع القارئ أمام تشخيص لأفق المتاهة و الظلمة راصدا الحياة الاجتماعية و ساعيا لرأب صدع ألام أوضار خديعة العلاقات الإنسانية وما تبقى لها من الذماء ، فالإنسان في نهاية المطاف هو سيد مصيره . لقد حاول البحث جاهدا الوقوف على جانب مهم بوضع هذه التجربة الشعرية في سياق يجعل من المنجز النصي يربأ في أمور و هواجس الذات الفردية و الجماعية في سياق التحولات العميقة و المتسارعة التي يشهدها عصرنا هذا بحيث تتلاشى القيم الإنسانية ، و لهذا سخر الشاعر إمكانات الحجاج بالعواطف كآلية اجتماعية سننها الإرشاد و التوجيه .
الاحالات :
1 باحث من أسفي
2 من مقدمة كتاب القصيدة للأستاذ الدكتور عباس الجراري ، الصفحة الأولى
3 اللسان لابن منظور
4 صفي الدين الحلي ، العاطل الحالي و المرخص الغالي ، تحقيق الدكتور حسين نصار ، دار الكتب و الوثائق القومية ، مركز تحقيق التراث ، 2003 م ، الطبعة الثانية ، صفحة 17 ، يقصد بأهل المغرب الأندلسيين ، كما يطلق أيضا على شمال إفريقية
5 واحد من أبرز المصنفات المغربية في عصرنا الحديث ” كتاب القصيدة ” و انطلاقا من هذا المعنى اشتغل فضيلة الأكاديمي الأستاذ الدكتور عباس الجراري واحد من أولي الثبت و الرسوخ بالحفر التأسيسي الخلاق و التقعيدي المتأصل من تربة الأدب المغربي درسا و تحليلا لموضوع الزجل من خلال هذا المنجزاته العلمي ، حيث تطرق إلى جملة من القضايا المتصلة بالقصيدة الزجلية باعتبارها من أهم ألوان الغناء الشعبي وتناول من حيث الشكل مفهوم الزجل و أنواعه و تحدث عن مرحلة النشأة و التطور و الازدهار ، كما تدارس من حيث البناء معطى اللغة و الفنية والخصائص العروضية و تطرق إلى بعض الموضوعات التي تناولها الزجال المغربي و أفرد بابا خاصا بالأعلام .
6 الدكتور عباس الجراري ، القصيدة الزجل في المغرب ، مطبعة الأمنية ، الرباط 1970 م صفحة 48
7 سيمياء العنوان بسام قطوس ، ط 1 ، 2001 م ، وزارة الثقافة عمان ، الصفحة 36
8 البحراني كمال الدين ميثم ، مقدمة شرح نهج البلاغة ، تحقيق عبد القادر حسين ، دار الشروق ، بيروت / القاهرة 1987 ، ص 163
9 عبد الفتاح كيليطو ، الأدب و الغرابة ، دار توبقال للنشر ، ص 16
10 جان إيف تدييه النقد الأدبي في القرن العشرين ، ترجمة قاسم مقداد ، وزارة الثقافة ، دمشق سورية 1993 ،ص 302
11 استوحينا هذه الفرضية بناء على مسعى زجالنا التائق إلى إبراز تردي القيم و العلاقات الإنسانية و تغير الأحوال الاجتماعية كحجة أولى تضع المتلقي على مشرحة النقد و النفاذ إلى عمق مقابلة حجة الأمس القريب بحجة الراهن الفظيع و هذا سيتضح من خلال اشتغال آليتي الإيتوس و الباتوس ، و قد شمر الشاعر عن ساعد الجد للتصدي لإظهار علل و أعطاب العصر الذي نعيشه .
12 ابن منظور ، لسان العرب ، تحقيق عبد الله علي الكبير ، محمد أحمد حسب الله ، هاشم محمد الشاذلي ، دارالمعارف ، القاهرة ، مادة ( ح،ج،ج)
13 الزبيدي مرتضى ، تاج العروس من جواهر القاموس ، تحقيق مجموعة من المحققين ، دار الهداية ، مادة (ح، ج ، ج)
14 أحمد قادم ، بلاغة الحجاج بين التخييل و التدليل ،عالم الكتب الحديث للنشر والتوزيع ، الطبعة الأولى 2019 ، ص 1
15 سورة البقرة ، الأية 256
16 محمد الوالي ، في خطابة أرسطو الباتوسية ، ص 47