آراء ودراساتسلايدرمع قهوة الصباح

نظراتٌ في الدعاءِ الناصِري…ففي الوشج الابتهالي بين التضرع والتسبيح (14)

محمد التهامي الحراق

دعما للأفق الروحاني في لحظات الابتلاء، واستحضارا لطاقة الدعاء عند الشدائد والضراء؛ كما تؤصل له المرجعية الإيمانية الجامعة بين البذل والتوكل، بين الأخذ بالأسباب وملازمة الدعاء؛ ننشر ها هنا نظرات في متن الدعاء الناصري(نسبة إلى الصوفي الكبير محمد بناصر الدرعي دفين تمكروت عام 1085هـ). ويعد هذا الدعاءُ واحدا من أشهر الأراجيز التوسلية التي اعتاد أهل المغرب استعمالها في باب التضرع عند الشدائد والمحن.
* * *

لا تنفصلُ مختلف المعاني والدلالات التي تحفلُ بها “الناصرية” عن روح القصيدة التي يُجملها ويختزلها مطلعها الدال:

يا من إلى رحمته المفر —
ومن إليه يلجأ المضطر

ذلك أن الجمع بين أوصاف العبودية والتي يتحقق به المتضرع المضطر وأوصافَ الربوبية التي يتعلق بها، هو المدارُ الناظم لكل مسارات التوسل في “الدعاء الناصري” و المُضَمَّن في هذا المطلع. وعلى ضوء هذا المدار يمكن فهمُ الأبيات التي وقفنا عندها في الحلقة الماضية، حيث أبرز الناظم من أوصاف العبودية نفاذَ القوة وضَعف الاستطاعة وقلَّةَ الحيلة، وأبرز من أوصاف الربوبية العطاءَ الكريم والفضلَ العميم. وفي نفس أفق بسط هذه الأوصاف التي يتعلق بها العبد المتضرع، يقول الشيخ ابن ناصر:

فما رجت من خيرك الظنون —
بنفس ما تقول كن يكون

إن الأمر يتعلق بحسن الظن بالله تعالى أي توقُّعُ الجميل منه سبحانه، وهو من أهم ما يجب أن يتعلق به العبد المتضرِّع؛ ذلك أن الحق سبحانه يقول في الحديث القدسي: “أنا عند ظن عبدي بي، إنْ ظن بي خيراً فله، وإن ظن شراً فله”. وقد فرق ابن القيِّم في كتابه “الجواب الكافي” بين حسن الظن والغرور فقال: “حسنُ الظنِّ إن حَمََل على العمل وحث عليه وساعده وساق إليه، فهو صحيح، وإن دعا إلى البطالة والانهماك في المعاصي، فهو غرور، وحسنُ الظن هو الرجاء، فمن كان رجاؤه جاذباً له على الطاعة زاجراً له عن المعصية، فهو رجاء صحيح، ومن كانت بطالتُه رجاءً ورجاؤه بطالةً وتفريطاً، فهو المغرور” . وحسن الظن بالله بما هو رجاءٌ في الله مشفوع بالعمل الصالح الخالص مِنْ حسن العبادة، فقد قال المصطفى صلى الله عليه وسلم: “إن حسن الظن بالله تعالى من حسن العبادة”؛ لذلك كان هذا الظنُّ الحَسَنُ من أعظم ما يُعْطَاه المؤمنُ الصالح، يقول عبد الله بنُ مسعود رضي الله عنه :”والذي لا إله غيرُه ما أُعطي عبدٌ مؤمن شيئاً خيراً من حسن الظن بالله عز وجل، والذي لا إله غيره لا يُحْسِن عبدٌ بالله عز وجل الظنَّ إلا أعطاهُ الله عز وجل ظنَّه؛ ذلك بأنَّ الخيرَ في يده”. وهذه القدرةُ الربانية المطلقةُ على العطاء العاجل النافذ هي ما أكدها الناظم حينما أشار إلى أن همة العبد ما تعلقت برجاءِ خيرٍ إلا كانت الاستجابةُ له بتدبير “كُنْ” الإلهية. قال تعالى: ” إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ”؛ و قال سبحانه: “وَإِذَا قَضَىٰ أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُ”.
هذا ما نفهمه من قول الناظم:

فما رجت من خيرك الظنون —
بنفس ما تقول كن يكون

وبنفس جلالي تسبيحي، وببلاغة تشتغل على التكرار والجناس واستثمار قوة استعمال ضمير كاف الخطاب في المناجاة، يؤكد الناظم على إفراد المولى عز وجل بالتوجه والقصد؛ إذ هو سبحانَه الوسيلةُ والغاية، فلا وصول لِما لديهِ إلا به. يقول:

يا رب يا رب بك التوصل —
لما لديك وبك التوسل

ومن تم تنتفي كلُّ الوسائل والطرائقِ إلى الله سبحانه من غير بابه ومن غير شريعته، يقول الحديث القدسي: “وما تقرب إليّ عبدي بشيء أحب إلى مما افترضتُه عليه”؛ بل إن بابَه سبحانَه مُغلق دون مَنْ سلك إليه بغير سبيله، يقول الشيخ محمد الحراق:

ومكِّنْ بكفِّ الشرعِ أمركَ كلَّه —
ودونك إن لم تفعل البابُ سُدَّت

ولتأكيد هذا الإفراد الخالص لطلب الحق غايةً ووسيلة، وهذه الوحدةِ في التوجه والقصد، يقول الشيخ في دعائه:

يا رب أنت ركننا الرفيع —
يا رب أنت حصننا المنيع

وهو هنا يَشِجُ، في بهاء وألق، بين صدق المناجاة والتسبيح، وبلاغة التوازي والجناس، مما يَضُخُّ هذا الدعاءَ بقوة في القول، وهمةٍ في التضرع، و يخلعُ عليهِ رونقا روحيا، يسكِّن من اهتياج الحاجة عند اشتدادها بَبرْدِ اليقين في الاستجابة الربانية، والتي وعد بها الحقُّ المضطرين من عباده: “أَمَّن يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاء الْأَرْضِ، أَإِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ، قَلِيلًا مَّا تَذَكَّرُونَ”.
و إلى يقين هذه الاستجابة يشير سيدي عبد القادر العلمي في “توسليته” حين يقول:

حق يـا رب قلت للنبي المرســــــولْ —
من دعا لك فعبيدك حــــق تستجبلــو
كيف يدعي عبدكْ ويخيب يا المسـؤولْ —
يا سريع المعطى لجميع من اطلب لو
أمركْ بين الكاف والنون حق مفعولْ —
من اتحقق يحمق ويغيب ليه عقــلُ

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

8 − 7 =

زر الذهاب إلى الأعلى
MCG24

مجانى
عرض