
(وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَاماً)
الحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات
أحمده سبحانه وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، صلى الله وسلم عليه وعلى آله وصحبه والتابعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد، فحديثي إليكم اليوم معاشر الآباء والأمهات والإخوان والأخوات، عن أفلاذ الأكبادِ ومُهَجِ النُّفوسِ وزينةِ الحياةِ، عن الأولاد وعن تربية الأولاد، ومع الدرس الرابع من سلسلة صفات عباد الرحمن.
فأقول وبالله التوفيق.
إن الأولاد نعمة عظيمة من المُنعم الوهاب، يختص الله عز وجل بها من يشاء من عباده، ولو كانوا فقراء ضعفاء، ويمنعها عمن يشاء من خَلقه ولو كان أغنياء أقوياء، قال ربنا: ﴿ لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثًا وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ * أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَانًا وَإِنَاثًا وَيَجْعَلُ مَنْ يَشَاءُ عَقِيمًا إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ ﴾ [الشورى: 49، 50].
فمن أعظم النعم التي يعيشها المرء، أن يرى ذريةً له في هذه الحياةِ، هبةً من رب العالمين.
وإذا أردنا أن نعرف قدر هذه النعمة – نعمة الأولاد – وعظمَ هذه المنة، فلننظر إلى من حُرمها، لننظر إلى من حُرم نعمة الأولاد وكان عقيماً كيف هي حياته!
قد نرى أحدَهم يتحرق قلبه، ويبذل الغالي والنفيس، متنقلاً بين المستشفيات والأطباء والصيدليات.. أمنيتُه أن يُرزق ولداً يملأ عليه دنياهُ فرحا وسعادة، أمنيتُه أن يكون له أولاد، وأن يكون أباً، ولكن قدر الله وما شاء فعل.
الأولاد هبةٌ، عطاءٌ، وفضلٌ من الله العلي القدير، القائل سبحانه: ﴿ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ ﴾ [الحديد: 21].
هذا العطاء الرباني الكريم، يستوجب الشكر من كل أب له أولاد..
لأنَّ شكر المُنعم سبيل إلى استقرارِ النعم ودوامها، ونُزولِ البركة فيها، قال سبحانه وتعالى:﴿ وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ ﴾ [إبراهيم: 7].
ليس باللسان وحده، ولكن بما هو أعمق وأبلغ، وهو إحسان تربيتهم وفق المنهج الذي أراده الله سبحانه وتعالى، هو تنشئتُهم على محبة الله، وطاعته، وخشيته، ومراقبته في السر والعلن، وكذا محبةِ الحبيب النبي صلى الله عليه وسلم واقتفاءِ أثر سنته، حتى يكونوا حقا قُرة أعين.
وما تقِر الأعين إلا بصلاحهم وطاعتهم لله تعالى، وهذا مطلب عباد الرحمن المؤمنين، قال ربنا: ﴿ وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا ﴾ [الفرقان: 74]
فوالله إنها لنعمة عظيمة، و مِنَّة جليلة، يوم يُمسي المرء ويُصبح، وقد أقرَّ الله عينَيه بذريةٍ صالحةٍ تخافُ اللهَ وتتقيه، ذريةٍ تقيمُ الصلاةَ وتحفظُ حدُودَ الله وتراعيها.
فوقتها يعيش الآباء حقاً الحياة المُفعمة بالخير والطمأنينة والأمن، يَقطفون ثمار تربيتهم الصالحة، وتوجيهاتهم السديدة، وأسلوبَهم السمح في التعامل الأمثل مع الأولاد، تلك الثمار الطرية، تعود على الآباء بالسعادة والذكر الطيب والحَسَن في الدنيا والآخرة، فهم كما قال ربنا سبحانه: ﴿ الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ﴾ [الكهف: 46].
ومتى يكون الأولاد زينة الحياة الدنيا؟
وذلك بقدر ما يتصفون به من صلاح واستقامة.
على العكس فيما إذا كان الأولاد شوكة في الأعين، فإضافة إلى الآلام والمتاعب والويلات، فهم مصدر فتنة وشقاء، قال ربنا: ﴿ أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ ﴾ [الأنفال: 28].
متى ذلك؟ إن لم نحسن تربيتهم ورعايتهم، وقد علمتنا الأية الكريمة كيف نسأل الله العلي العظيم أن يهب لنا من الذرية الطيبة والصالحة، فقال وهو أصدق القائلين:
(وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَاماً)، «سورة الفرقان: الآية 74»، أي يا ربنا هب لنا من هباتك العظيمة الكثيرة أزواجاً، وذرية صالحة، من يعمل لك بالطاعة، فتقر أعيننا بهم في الدنيا والآخرة، فهؤلاء عباد الرحمن، يلحون بهذا السؤال بُغيَة، أن يرزقهم الله تعالى من يخرج من أصلابهم ومن ذرياتهم من يطيعه، ويعبده وحده لا شريك له، ويقول العلماء، إن هذا الدعاء لأزواجهم وذريتهم في صلاحهم، فإنه دعاء لأنفسهم، لأن نفعه يعود عليهم، ويدوم في الدنيا والآخرة، بل ويعود هذا النفع إلى عموم المسلمين. قال الطبري، والذين يرغبون إلى الله في دعائهم ومسألتهم بأن يقولوا ربنا هب لنا من أزواجنا وذرياتنا ما تقر به أعيننا من أن تريناهم يعملون بطاعتك، يعبدونك فيحسنون عبادتك، واجعلنا أئمة يقتدي بنا من بعدنا، واجعلنا للمتقين الذين يتقون معاصيك، ويخافون عقابك إماما يأتمون بنا في الخيرات، لأنهم إنما سألوا ربهم أن يجعلهم للمتقين أئمة، ولم يسألوه أن يجعل المتقين لهم إماماً، وقال واجعلنا للمتقين إماما، لأنه تعالى ينبهنا إلى أن الإمام هو الذي يسير على وفق منهج الله ولا يحيد عنه. وقرة أعين، كناية عن السرور والفرح، وهو مأخوذ من القرر، وهو البرد، لأن دمعة السرور باردة، أما سؤالهم أن يجعلهم أئمة للمتقين، هو طلب من الله أن يهديهم ويوفقهم، ويمنَّ عليهم بالعلوم النافعة، والأعمال الصالحة الظاهرة والباطنة التي توصلهم إلى هذه المنزلة العاليّة، وسؤالهم هذا لأعلى درجات العبودية.
وقد دعا عباد الرحمن ربهم، وهب لنا من ذرياتنا أولادا ملتزمين بمنهج الله لا يحيدون عنه ولا يكلفوننا فوق ما نطيق في قول أو فعل، لأن الولد حين يكون على هذه الصورة، يربح والديه في الدنيا وفي الآخرة، لأنه صالح لا ينقطع بره بوالديه لموتهما، إنما يظل باراً بهما حتى بعد الموت فيدعو لهما، وفي الآخرة يجمعهم الله في مستقر رحمته، ودلّ هذا الدعاء على سؤال الله أن يكونوا كاملين لهم ولغيرهم، هادين مهتدين، وهذه أعلى الحالات، وأجلّ الكمالات،
فاللهم إنا نسألك ( رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَاماً)، ٱمين يارب العالمين.
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا إلى يوم الدين.
عبد الرحمان سورسي