ثقافة

في تعاملنا مع القرآن الكريم… ومضات وتأملات

الدكتور محمد التهامي الحراق 
_1_  إذا لم نبذل جهدا لتجديد صلتنا بالقرآن الكريم، أعني صلة العقل والروح، صلة الاجتهاد في الفهم العقلي والمجاهدة في الترقي الروحي؛ فإننا لن نخرج من أسر الطقوسية الشكلانية؛ التي يلهج خلالها التالي بحروف القرآن ولا يعيه، ولا يستمد منه أفقا لصناعة التاريخ هنا والآن؛ ليكون التالي على هذه الحال ممن قال فيهم تعالى: “وَجَعَلْنَا عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا ۚ وَإِذَا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ وَلَّوْا عَلَىٰ أَدْبَارِهِمْ نُفُورًا”. على أن النفور هنا نفور فهم واستبطان وتفعيل وتثمير لا نفور تلاوة وتزيين واحتفال أشكال.
_2_ القرآن الكريم مثل بحر من الدرر لا تنتهي عجائبه، كل يستمد منه على قدر آنيته؛ أو قل مثل شمس دائمة الإشراق، قد يُستظَل منها، وقد يُستفاد من غذاء أشعتها، وقد تُستخرج منها الطاقة، وقد يَتم تحويلها إلى نور نافع، مثلما قد تُهدر تلك الأشعة، أو يُساء التعرّض لها فيُصاب المرء بضربة شمس مهلكة. الشمس دائمة الإشراق اليوم وغدا، لكن الإفادة منها على قدر علم المستفيد وقدرته على تحويل ذخائر طاقتها إلى منافع وفوائد تسمو بمعيش الإنسان ونمط حياته؛ كذلك الشأن مع القرآن الكريم. ومثلما أننا نهدر فوائد عظيمة في الشمس إذا اكتفينا بما أفاده منها أجدادنا على قدر معارفهم المحدودة بحدود زمانهم، فكذلك الشأن مع القرآن الكريم، نهدر أسرارا عظيمة في تدبره إذا احتجبنا بتدبرات أسلافنا عما فيه من درر نحن أقدر على استخراجها واستمدادها اليوم ممن سبقنا.
_3_ الذهاب إلى القرآن الكريم من زوايا معرفية متعددة، من مداخل البلاغة والنقد الأدبي وعلوم النص والتاريخ والفلسفة والتصوف وعلوم النفس والاجتماع والجماليات….فضلا عن مداخل علوم القرآن الموروثة؛ يجعلنا نكتشف ذواتنا من جديد في مرآة القرآن الكريم، كما يجعلنا نستشعر مخاطبة الوحي لنا ضمن معقوليتنا المعاصرة بمقدماتها وأسئلتها ورهاناتها وإشكالاتها المعرفية والروحية والأخلاقية والوجودية. بهذا ننتمي إلى القرآن الكريم بقدر ما ينتمي إلينا، وبهذا يتنزل علينا ضمن شروط زماننا دون أن نفصله عن نفسه، أو نبدد روحه المخترقة للأزمنة والأمكنة. وبهذا نكون أيضا أوفياء لأجدادنا الذين جعلوا القرآن الكريم قرآنهم، بحيث يجب علينا عقليا وإيمانيا أن نجعل منه قرآننا، حيث نحن معرفة وتطورا ومجتمعا واقتصادا وسياسة وأسئلة وقضايا.
_4_ إن أسمى صيغة للوفاء هي التجاوز. هذا ما أدركه النبغاء من أجدادنا، لذاك ظلوا دائما يفسرون القرآن الكريم، ويعيدون كتابة سيرة القرآن الحي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم. يعودون إليهما ويعيدون قراءتهما بأعين زمانهم، مستضيئين بقراءات أسلافهم، ومتجاوزين إياها نحو ما يلبي احتياجاتهم وأسئلتهم المتجددة، وهو عين الوفاء للنص ولقراءته. إنهم يعملون على فتح أقفال قلوب الأجيال المتتالية لتدبر القرآن الكريم: “أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا”، مثلما يعملون على استنبات تلقي الكتاب الثابت الخالد في التاريخ المتحول الصائر، وتوطين فهمه في بيئات التلقي المتغايرة، و”مخاطبة أهل كل زمان على قدر عقولهم”، أي بحسب معارف وإبستيميات زمانهم “حتى لا يُكَذَّبَ اللهُ ورسولُه”.
_5_ إن القرآن الكريم يحيا في القلوب بقدر ما يحيا في العقول، ويحيا في العقول بقدر ما يحيا في القلوب. فإذا كانت الاقترابات المعرفية من القرآن الكريم مبتكرَة خلّاقة تنظر إليه من خلال مفاتيح تفتح محجوبات وتكشف أسرارا تجدد من ولادة تلقي النص في هذا الزمان، فإن ذلك يجدد إيمان المؤمنين، ويغذي حياتهم بالمعنى، ويُقْدِرُهم على الفعل في التاريخ ضمن مشروطيته المعاصرة؛ وإذا كان الإيمان صادقا والبذل الروحي والنسكي مُخْلِصا، والغطس في بحر القرآن ترقيًّا في القرب من الحق، فإن ذلك يُثمِرُ فهما ويفتح الإدراكَ على إشراقاتٍ غير مسبوقة، والتقاطاتٍ غيرِ مرئية، وفهومٍ باهرةٍ غيرِ مطروقة، يُفْضِي بها النصُّ المطلق إلى متدبِّريه بحسب صدقهم، ويعلّمهم على قدرِ تقواهم: “وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ”. لأجل ذلك لا يفتح القرآن الكريم خزانة أسراره بغير مفتاحي الاجتهاد المعرفي والمجاهدة التقوية، وكل بذل معرفي بغير تقوى هو معرفة ناقصة، وكل تقوى عملية بغير بذل معرفي هي تقوى ناقصة؛ إذ من شروط معرفة القرآن الكريم التعرف عليه بالتقوى؛ ومن شروط التقوى اتقاء الجهل بالمعرفة. إذ ذاك فقط ستلتقط القراءةُ مباهجَ ومباهيَ أحسنِ الحديث في الحسّ والمعنى؛ قال تعالى: “اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَىٰ ذِكْرِ اللَّهِ ۚ ذَٰلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ ۚ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ”.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

أربعة × 2 =

زر الذهاب إلى الأعلى
MCG24

مجانى
عرض