
توظيف التراث الثقافي في التنمية القروية، العيطة الحصباوية بدار القايد عيسى بن عمر أنموذجا
إعداد : د. منير البصكري الفيلالي/ أسفي
من البديهي أن يشكل التراث الثقافي اليوم أحد المرتكزات الاقتصادية المهمة في العديد من دول العالم التي انخرطت في تجربة تأهيل تراثها واستغلاله في تحسين اقتصادياتها والرفع من مداخيلها وتنشيط سياحتها، مثلما هو الحال في بعض الدول الأوروبية التي جعلت من تراثها الثقافي أساسا قويا لبناء اقتصاد متميز خلق رواجا تجاريا بداخلها .. مما يكشف على أن التراث الثقافي، لا يختزل في بعده الجمالي والرمزي، وإنما له أيضا بعد اقتصادي مهم.
وبالقياس لما هو موجود عندنا في المغرب، فواقعنا التراثي يكاد يعاني إجحافا كبيرا على أكثر من مستوى، فلا هو يحظى بالاهتمام الكافي على مستوى الترميم والصيانة والمحافظة، ولا هو يقع في صلب مخططاتنا الاقتصادية والتنموية، على الرغم من أن تراثنا الثقافي يصنف من أغنى أشكال التراث على المستوى العالمي .. إلا أن الواقع الذي يعيشه، يجعله لا يستفيد من هذا التصنيف. ولعل الاهتمام به، عنصر أساسي في تقوية الإحساس بالانتماء والتشبث بالهوية. فهو لسان حال التاريخ الذي ينطق بالوقائع والأحداث من خلال ما تبقى من مظاهره وما وصل منه إلى الأجيال اللاحقة من شذراته. فالأمم تعزز تاريخها بمظاهر تراثها، وتحافظ على معالمه ما أمكن، وتعتبره بمثابة كنز يجب الحفاظ والحرص عليه.
لذلك، لا يجب أن ننظر إلى تراثنا الثقافي فقط من الناحية الجمالية والرمزية، أي كونه عبارة عن مخلفات الماضي وموروث الأجداد، وبالتالي يجب المحافظة عليه فقط لأنه إرث يبرز خصوصياتنا ويميزنا عن الآخر. فالنظرة إليه من هذه الزاوية، هي نظرة محدودة الأفق بالنظر إلى التحولات التي تطرأ الآن على العالم الذي أصبح يتغير بصورة سريعة، ولا يمكن بأي حال من الأحوال أن نضمن محافظة الأجيال القادمة على أي نوع من أنواع التراث، أخذا بعين الاعتبار ما تمارسه العولمة الآن من هجوم ثقافي للشعوب المتقدمة على شعوب العالم الثالث .. وهنا تكمن أهمية التوظيف التنموي للتراث الذي يمكن أن يحقق لنا هدفين مهمين في آن واحد وبمنفعة أكبر. فهذا التراث الثقافي رأس مال علينا استثماره وتنميته ومنحه الإشعاع المطلوب والتفكير فيه على أنه عنصر تنموي بإدماجه في الحركية السياحية العامة التي يشهدها العالم اليوم، ببروز أنماط سياحية جديدة من بينها السياحة الثقافية. ولا يخفى علينا ما أصبحت تجنيه بعض الدول من اهتمامها بالتراث الثقافي واعتباره رافعة للتنمية على حد ما نجد في اسبانيا مثلا، حيث أصبحت بعض المدن التاريخية قبلة للسياح، مما جعلها تكتسب شهرة واسعة، إضافة إلى تشغيل عدد مهم من اليد العاملة، فحققت بذلك مداخيل مهمة، وبالتالي، تمون قد حققت هدفين اثنين، هما: المحافظة على التراث باعتباره جزءا من الهوية، وفي الآن نفسه، تحقيق التنمية الاقتصادية انطلاقا من ذلك التراث .. وبهذه الطريقة يتم ضمان المحافظة عليه على أحسن وجه. وهذا هو المعنى السليم للتوظيف التنموي للتراث الثقافي، وهو توظيف ليس بالصعب أبدا، بل يحتاج فقط إلى إرادة وقرار سياسيين حتى نصل إلى هذه النظرة نحو التراث.
في بلادنا ، نجد غير قليل من المعالم التراثية في حاجة إلى إعادة الاعتبار، شيدتها شخصيات تاريخية بارزة، تحولت إلى معالم مخربة ومندثرة على حد ما عليه اليوم قصبة القايد عيسى بن عمر التي ما تزال آثارها الباقية تشهد على ما كان لها من أهمية في عهد بانيها. فهي فضاء تراثي بامتياز ، وإرث تاريخي وثقافي.
وبما أن هذه المعلمة، تقع في منطقة عبدة وأحواز مدينة أسفي، حيث توجد الحصبة، فإن ميلاد فن العيطة الحصباوية ينحدر من هناك. فهذه العيطة الحصباوية تعتبر نمطا من العيوط، حيث تميزت على مستوى الشكل بطول قصائدها، ومنها عيطة “الرادوني” التي تتركب من تسعة فصول، وأقصرها عيطة “كبت الخيل عل الخيل”. ومن ثمة، فالعيطة الحصباوية تعتبر من أكثر العيوط ثراء لارتباطها بحياة الإنسان وبالأحداث التي يعيشها، كما أنها متنفس لأهل عبدة من خلال ما يختلج في نفوسهم من مشاعر وأحاسيس لها ارتباط قوي بالمجتمع.
وبما أن وزارة الشباب والثقافة والتواصل تنظم سنويا مهرجان العيطة الذي تشارك فيه مجموعات وفرق من فن العيطة من مختلف أقاليم المملكة، تهدف من خلاله إلى العناية بهذا الفن وتوثيقه والحفاظ عليه وحمايته والتعريف به وإشاعته في الأوساط والأرجاء التي ما تزال لا تعرف عنه الكثير، إلا أنها لم تتوفق في هذا الاختيار حين تنظمه في أسفي، بدل المكان المناسب لهذا الفن، ونقصد هنا منطقة الحصبة التي تعرف تهميشا واضحا. فلو أن الوزارة تدبرت هذا الأمر، ونقلت مهرجان العيطة إلى هذه المنطقة، ستكون فعلا قد ساهمت في تحقيق التنمية القروية من خلال توظيف هذا المهرجان ثقافيا وفنيا وسياحيا.
وبذلك، تكون قد ردت الاعتبار ليس فقط لفن العيطة كمكون أساسي من مكونات تراثنا الموسيقي، ودليل هويتنا الثقافية والفنية والتاريخية، وإنما أيضا لإعادة تأهيل المنطقة ككل ورد الاعتبار للقصبة التاريخية لعيسى بن عمر العبدي بغية إبراز معالمها التراثية التي تتميز بها ، إضافة إلى الدفع بسكان المنطقة إلى الكف عن بعض الممارسات في تعزيز آليات التدهور والتراجع حيث تركوا هذه المعلمة عرضة للتدهور والتدمير البطيء ، وربما يعود ذلك إلى أن هذه الساكنة لا تتوفر على الإمكانياتى المادية للقيام بعمليات الترميم والإصلاح ، وإلى الأسلوب المعيشي والتوظيف السليم لمرافق هذه القصبة.
لذلك، أصبح من الضروري التنسيق مع كل الجهات المعنية لإعادة الاعتبار لهذه القصبة، وذلك لفك العزلة عنها وجعلها محورا للحركية الاقتصادية ومحاربة الهشاشة وتدهور الإطار المبني وتشجيع الاستثمار في تطوير العرض السياحي والثقافي بالمنطقة.
فلا بد إذن من وضع استراتيجية مسؤولة تتطلب إرادة سياسية قوية، واعتمادات مالية كافية، كما تتطلب انخراط الفاعلين الذين لهم صلة بالمنطقة ككل.
إن الوعي بأهمية ودور التراث الثقافي في التنمية، لن يتأتى إلا بسياسة متكاملة الجوانب ، تستحضر في مضمونها ما هو تربوي وفني وأمني وقانوني ، وما إلى ذلك من الجوانب التي يمكن أن تحمي تراثنا وتعمل على تطويره واستغلاله في الإطار الأمثل .
إن الغاية من إثارة هذا الموضوع والذي جاء على هامش إعلان وزارة الشباب والثقافة والتواصل عن تأجيل الدورة الواحدة والعشرين للمهرجان الوطني لفن العيطة بأسفي التي كان مقررا تنظيمها خلال الفترة ما بين 21 و 30 ييوليز 2022، وهو مهرجان يندرج حسب الوزارة ضمن خريطة المهرجانات التراثية التي تنظمها بهدف تثمين الموروث الحضاري المغربي وصون الذاكرة الفنية الجماعية .. فإذا كانت الوزارة فعلا تنهض بهذا الموروث، فإننا من وجهة نظرنا، ندعوها إلى نقل وتحويل هذا المهرجان إلى مكانه المناسب، أي إلى منطقة الحصبة التي لا تبعد عن أسفي إلا بحوالي ثلاثين كيلومترا على الطريق الرابطة بين أسفي والجديدة. فهذه المنطقة بالذات تربط العيطة بأصولها وتجعلها أثرا ناطقا . في هذا الإطار، وجدنا المرحوم محمد بوحميد قد سعى إلى التأكيد على عنصرين اثنين هما: مكان إقامة العيطة، ويقصد هنا الموطن الأصلي لها، حيث تبقى غشكالية النشوء مستمدة جذورها من البيئة والواقع المعيش. أما العنصر الثاني في رأيه رحمه الله، فقد حدده فيما أسماه “مختبر الولادة الجديدة” ويعني بذلك مواطن اللقاء والتمازج بين أنماط العيطة، حيث يتولد من هذا التمازج نمط جديد يظل وثيق الصلة مع النمط الأصلي ومثل هذا ، يتفق مع ما ذهبت إليه وزارة الشباب والثقافة والتواصل حين اختارت أن يشمل برنامج المهرجان مشاركة فرق من مختلف مناطق المغرب تمثل الأنماط الإيقاعية للحصباوي والحوزي والزعري والمرساوي والملالي والجبلي. وهذا مهم في إبراز تنوع المعطيات الجغرافية في بلادنا بتنوع وتعدد الإنتاجات التراثية إلى جانب مظاهر التعدد والتنوع التي تطبع فنون العيطة بمغربنا الحبيب.
وهكذا، فإن الهدف من هذه الإثارة هو التعريف بالموروث الثقافي والمؤهلات التاريخية التي تزخر بها قصبة عيسى بن عمر والإمكانات السياحية التي تتيحها والأدوار التي من المفروض أن تنفرد بها في سبيل ضمان إقلاع سياحي بالمنطقة من جهة، ومن جهة أخرى استغلال تنظيم مهرجان العيطة بالمنطقة نفسها بغية النهوض بها وفتح مجا أوسع لإدارة البحث في مجال العيطة حتى لا يصادر حق الأجيال الجديدة من الباحثين في التراث الثقافي للتعامل مع المدخرات التراثية الموسيقية والشعرية والشفوية على حد تعبير الأستاذ حسن نجمي.
ويبقى أن نسجل كفرضية أن صاحب هذا التراث الثقافي والتاريخي ، هو حارس عليه ، فمن واجبه حمايته والمحافظة عليه والدفاع عنه ، وأخذ كل الاحتياطات اللازمة في ذلك ، وترميمه وتطويره المتجانس وتأهيله بشكل متناغم مع الحياة المعاصرة ، ذلك أن كل هذه المكونات التراثية بمنطقة الحصبة ، لا تمثل إلا ذاكرة جماعية تعبر عن هوية الأجيال السابقة والحالية ، وذلك في زمن انهيار الثقافات والقيم ، وسيادة الثقافة الواحدة “العولمة “.