
الكلام المستحيل..
الدكتور محمد التهامي الحراق
هناك “معان” لا تقبل قولها في “كلام”؛ لأن كل قول فيها هو بحث وحفر عن “معناها” الهارب. أفكر، تمثيلا، في الموت. كيف يمكننا الحديث عن الموت؟ من منا ذاق الموت وعاد ليحدثنا عنه؟ أي “كلام” يمكنه أن يجعلنا نقترب من “معنى” الموت، فيما هو “كلام” متخلق من رحم “الحياة”؛ حيث الموت جار دائم، لكنه جار مجهول على الدوام؟؟ كل محاولة “كلام” عن الموت يجعل اللغة “كليمة”، جريحة تنزف على حافة الاستحالة. ها هنا تتقدم نصوص استثنائية لها “هيبة” خاصة، تستمدها من إعلانها أنها قادمة من عالم الإطلاق ورحم الغيب، ويمكنها “الكلام” عن الموت من غير نزيف. يصغي الإنسان بأسئلة استحالاته إليها فيجدها “كلاما”، يراه بعض كسائر الكلام، ويراه المؤمنون “كلاما مقدسا” يقول استحالات الكلام. ولا معيار قط بين الفريقين إلا أن يصغى لتلك النصوص بأذن ترفع “كلام” تلك النصوص فوق مألوف “الكلام”.
إنه معيار التلقي. يشترط غير المؤمنين أن تقنعهم تلك النصوص أولا، قبل أي تلق لها ك”كلام فوق الكلام”؛ ويشترط المؤمنون الإصغاء لها أولا بما هي كذلك لاستكشاف ما يقنعهم بذلك؛ إذ ما داموا يصغون إليها “من خارجها”، فسيظلون أسارى استحالات كلامهم، محرومين من الإقامة في مجرة “كلام” يتاخم كلامهم، لكنه قط ليس مثل أي كلام. إنه يتكلم بثبات وثقة حيث يستحيل منهم الكلام. سيظل الجدل بين الفريقين أبديا، ما دامت تختلف بينهما المعايير والمنطلقات في التعامل مع الكلام. وسيظل الصمت أيضا مستودَعا مؤقتا للايقين “حتى ياتيك اليقين”؛ حيث يستحيل الكلام، ويبدأ بين الأحياء المتكلمين جدلُ الصمت والصوت، أو قل جدل الإمكان والاستحالة حول الكلام. ذاك الجدل الذي يسهم فيه الشعر والخيال والإبداع…مثلما يسهم فيه القول الفلسفي والعلمي المحض والعلمي الإنساني بشتى فروعه وتشعباته. ويظل الجدل مفتوحا، ليظل الكلام ممكنا؛ إذ متى غاب السعي الدائم لقول الاستحالة، صار الكلام مستحيلا بإطلاق؛ وكأن في استدامة هذا السعي استدامة للكلام، وفي غياب هذا السعي استحالة لكل كلام. لنقل، عطفا على بدء، إن السعي الحثيث نحو الكلام المستحيل عن الموت هو الذي يضخ الحياة في الكلام، ويغذي الحياة بالمعنى؛ ذاك المعنى الذي يستضيف استحالاته ليظل قابلا للحياة.