
صدى رجالات أسفي في التاريخ – الحلقة 32
إعداد: الدكتور منير البصكري الفيلالي / أسفي
سيدي التهامي الوزاني :
الحديث عن سيدي التهامي الوزاني، حديث ذو شجون، تعرفت إليه في سبعينيات القرن الماضي في زيارة خاصة لوالدي الحاج محمد الفيلالي رحمه الله ونفعني برضاه، فقد جمعتهما الدراسة، سواء في أحد كتاتيب المدينة العتيقة عند الطالب “زميط ” رحمه الله ، أو في مدرسة مولاي يوسف.. عرفته رجلا ومربيا فاضلا كبيرا، أعطى المجتمع الأسفي والأجيال الكثير من فكره وعلمه وصحته وماله.. وساهم مساهمة مباشرة في إنماء الحركة التعليمية والعلمية والثقافية بمدينة أسفي.
ينحدر سيدي التهامي من بيت الشرفاء الوزانيين بناة الزاوية التي تحمل اسم: “دار الضمانة”. ولد عام 1932 بدرب “سيدي عبد الكريم” وهو من أقدم دروب المدينة القديمة.. وهذا الدرب ” أنجب عددا من مشاهير رجالات أسفي في العلم والتدريس والقضاء والحسبة والإدارة المخزنية ، وفي الوطنية والمقاومة نذكر: الفقيه محمد التريكي والفقيه الهاشمي الركوش والفقيه سيدي عبد السلام الوزاني والفقيه سيدي محمد الوزاني والقائد عبد المالك الوزاني والفقيه الشيظمي والعدل محمد الغماز والمحتسب سيدي التهامي الوزاني (وهو غير مترجمنا )، والقائد سيدي عبد الله الوزاني وخليفة الباشا سيدي علال الوزاني، والقائد سيدي محمد بن العربي الوزاني، والوطني علال قنبوع والوطني والنقابي ابراهيم الحلاوي والمقاوم محمد رضا المعروف بلقب “بابا ” ”
نهل سيدي التهامي من بيئته ما أهله ليكون مؤدبا وهادئا، مرهف الحس، خفيف الروح اجتماعيا، يميل إلى التفاعلات الاجتماعية ، لطيف الدعابة، وديع المعشر، حلو النطق واللسان، لا يتكلف في حديثه، سليم الطبع والطباع، رقيق القلب، عطوفا حنونا ، عفيفا كريم النفس، شامخ الكرامة، قويا عند قول الحق، صريحا في كل تصرفاته وسلوكياته، وهذه الأخلاق الفاضلة ، التي كان يتسم بها الأستاذ سيدي التهامي، دليل على ما يتمتع به من نضوج فكري.. وعقلية هادئة متزنة، وبصيرة ثاقبة . كل هذه المقومات البشرية هدته إلى الخير والفضيلة.
التحق سيدي التهامي الوزاني بكتاب الفقيه الهسكوري بدرب: “بوجرتيلة”، كما تابع دراسته بمدرسة مولاي يوسف.
في هذه المدرسة، أتيح له أن ينال تكوينا متينا على يد أساتذة مشهود لهم بالكفاءة العلمية المتميزة.
فقد سبق أن حدثني والدي رحمه الله ، وكان صديقا حميما لسيدي التهامي الوزاني، إذ درسا معا في مدرسة مولاي يوسف عن جدية وإخلاص الأساتذة وتفانيهم في مهمتهم التعليمية بهذه المؤسسة، وذكر لي من بين هؤلاء: “مسيو مولاي” واسمه الحقيقي : مولاي امحمد كزوز وكانت له مكانة رفيعة في نفوس تلاميذه بحكم كفاءته وجديته وموهبته الفنية، إذ كان يرسم لوحات ملونة على السبورة لتقريب موضوع الدرس للتلاميذ (بمثابة استخدام المسلط العاكس اليوم) ومن ضمن هؤلاء الأساتذة، السيد فارس وهو أستاذ جزائري، إضافة إلى الأستاذ أحمد عاشور والفقيه امحمد العلج بنهيمة والفقيه المعطي الحجام وغيرهم من الأساتذة الذين أبلوا البلاء الحسن في تكوين جيل سيدي التهامي الوزاني. بعد ذلك، انتقل إلى مراكش لإتمام دراسته بكوليج محمد بن يوسف. بعد حصوله على الشهادة الثانوية، ولج سيدي التهامي الوزاني مركز تكوين المعلمين بمراكش، لينخرط بعد التخرج في سلك التربية والتعليم، حيث بقي يؤدي واجبه التربوي على أحسن وأكمل وجه حتى تقاعده مربيا ناجحا وأستاذا متألقا ومديرا موفقا.
ومن ضمن ما شغله ، رئيس مجلس بلدية أسفي سنة 1969، حيث شهد له الكثيرون بالعمل الدؤوب فيما ينفع المصلحة العامة لمدينته بغية النهوض بها. فكان ـ رحمه الله ـ من الذين لا يسعون إلى تحقيق مطمح أو امتياز أو جاه أو نفوذ، إنما كان يؤدي واجبه في تواضع جم، وهمة عالية، جاعلا نصب عينيه، خدمة مصالح المدينة.
إننا في الواقع أمام شخصية متعددة الجوانب، فهو مثال حي لذلك الطراز الفريد من الرجال الذين سجل التاريخ اسماءهم بحروف من نو.. لا يفكرون بجاه ولا دعاية ولا مصلحة ولا منصب، ولا ينتظرون جزاء ولا شكورا.. إنما يعملون لوجه الله، يؤدون واجبهم في صمت وتواضع، وينعمون في دواخل أنفسهم بالراحة والطمأنينة.
وإذا كان التعليم محطة بارزة في مسيرة سيدي التهامي الوزاني، فهو لم يتخذ منه وسيلة للعيش ، وإنما كان التعليم عنده مدرسة للتربية والتوجيه والتهذيب وإعداد الأجيال النافعة والمفيدة لبلدها ووطنها. تلكم الأجيال التي أشبعها بالثقافة الإسلامية السنية التي تشبع بها سيدي التهامي الوزاني، بمثلها وقواعدها وضوابطها في طفولته وشبابه ، وما تلقاه من دروس في حلقات علماء المسجد الأعظم بالمدينة القديمة، فنهل من معين الثقافة الإسلامية، وزين كل ذلك ونماه بما كسبه من ثقافة أجنبية. وهكذا كان العلم والتعليم بالنسبة لسيدي التهامي الوزاني هدفا ووسيلة في نفس الآن، إذ كانت إسهاماته سواء في المجال التربوي أو الثقافي والفني واضحة للعيان، بذل في ذلك جهدا متواصلا ليلقنه للأجيال اللاحقة حتى ينتفعوا به.
إننا بفقدان سيدي التهامي الوزاني رحمه الله، فقدنا رائدا من رواد التعليم، ومناضلا شريفا ومواطنا غيورا ومجاهدا صابرا، عنده إصرار عجيب على أداء دوره وإيمانه العميق بنجاحه في مهمته مهما واجه من صعوبات، ومهما قابل من إحباطات. كلما زرته في بيته، إلا وأجد عنده مجموعة طيبة من الأصدقاء والأخلاء، فيهم الأستاذ والطالب والباحث والتاجر والطبيب، يحاورون معه في كثير من القضايا المختلفة، مما كان يعطي لمجلسه رونقا خاصا .كان ـ رحمه الله ـ يدعونا لزيارته في بيته بحي بيا ضة، فكنا نشعر في حديثه وإجاباته ما كان يمتاز به من سلوك طيب.. يميل في حديثه إلى الحوار والنقاش، وعندما يسأل، يصغى بكل جوارحه وأحاسيسه للسائل، وهذا دليل الاهتمام والعناية بمحاوريه، عميق في إجاباته واضح المعلومة والشرح، غزير العلم وفنونه . وهذا السلوك الحسن يعتبر أصلا من أصول التدريس والتربية والتعليم، وهو ما كان يحدونا إلى الأخذ عنه والتزود من خبراته وتجاربه الحياتية.
رحم الله سيدي التهامي الوزاني، فقد كرس حياته ومواهبه وطاقات نشاطه العقلي لخدمة بلده ومواطنيه. ونحن حين نكتب عن سيدي التهامي الوزاني ، فلا يعني ذلك أننا نسعى من رفع قيمته، بل هو عمل يرفع من قيمتنا نحن، لأن الكتابة عن رجل مثل سيدي التهامي الوزاني تعطي لحياتنا في مختلف جوانبها ضوءا ساطعا نستهدي به، وذلك بفضل ما كان لهذا الرجل من قيمة خلقية وعلمية قلما يجود بها زمان.