مجتمع

بين إحراق المصحف وهجران القرآن….

الدكتور محمد التهامي الحراق
حادثة إحراق المصحف الأخيرة من لدن متطرف يميني سويدي، تعيد لمائدة السؤال علاقتنا مع القرآن الكريم. نعم، ندين مع المدينين، هذا الفعل الإجرامي الشنيع، وندعو لتفعيل مبدأ ومقتضيات قانون رفض ازدراء الأديان…..؛ لكن إذا كان هذا التفعيل من واجب المؤسسات السياسية والديبلوماسية والحقوقية والقضائية….فإن من واجبات المؤسسات الدينية والعلمية والبحثية والأكاديمية، وواجب المسلمين ومثقفيهم، أساسا، لا فقط أن يدرسوا الدواعي والأسباب الجلية والخفية والنتائج القريبة والبعيدة لمثل هذا الفعل والخطاب الذي يؤطره ويسوغه؛ بل عليهم أن يعملوا بجد ويبذلوا بصدق من أجل تجديد علاقة المسلمين اليوم بالقرآن الكريم، بحيث يُغيّرهُم ويُغيِّرُ بهم، أي بحيث ينتج فيهم معنى، ويثمر فيهم أفقا معرفيا وروحانيا كونيا قابلا لمخاطبة الإنسان المعاصر، ومحاورة انشغالاته، والإصغاء لانهماماته، والاقتراب من أسئلته؛ للإسهام في إنقاذه من إحراجاته الروحية والنفسية والأخلاقية والرمزية….تلك الاحراجات التي تدخل ضمن ما يكابده الإنسان اليوم تحت اسم “أزمة المعنى”.
المسألة، أيها الأحباب، ليست صراخا عابرا، وغضبا كسولا، واحتجاجا يرتفع لينخفض، وصوتا يعلو ليصمت. المسألة تتعلق بكيفية تعامل المسلمين اليوم مع القرآن الكريم، وديعة الوحي الإلهي الأخير في الإنسانية. كيف ينظرون إليه؟ كيف يتلقونه؟ كيف يفهمونه؟ كيف يستثمرونه؟ كيف يَدْرُسونه ويُدَرِّسونه؟ كيف يتفاعلون معه عقلا وروحا، معرفة وعرفانا؟ ما أثره في وجدانهم وعقولهم وخيالهم وسلوكهم وتدبرهم وتدبيرهم؟ هل يستقبلونه كوحي نزل مرة واحدة في القرن السابع للميلاد في شبه الجزيرة العربية، أم يستقبلونه كوحي ما فتئ يتنزل على تاليه أمس واليوم وغدا؟ كيف يفهمون تنزيله وترتيله؟ كيف يستمعون إليه وينصتون له؟ هل يُرحَمون بذلك، فتبدع عقولهم، وتسمو أرواحهم، وتطمئن قلوبهم، وترتاح نفوسهم، ويقدمون بذلك نموذجا قرآنيا إنسانيا، يكرّم النفخة الإلهية الآدمية، ويؤهلها للسيادة المنتجة في الكون والاستخلاف الرشيد في الأرض؟ أي حضارة يستمدون روحَها اليوم من آفاق القرآن الكريم؟…أي مسالك يستمدونها منه للخروج من مضايق تعامل الإنسان اليوم مع المطلق ومع نفسه ومع أخيه الإنسان ومع الطبيعة والبيئة و مع الشر في العالم ومع حيرة الإنسان الأنطلوجية ومع العلم ومع الثورة الرقمية ومع الماضي والمستقبل……إلخ؟؟؟؟…دون الإجابة عن هذه الأسئلة وسواها، سيظل المسلمون “يحرقون” رمزيا القرآن الكريم “بهجرانهم” له، وهم لا يشعرون؛ إذ لم يحرق المتطرف المشؤوم سوى “المصحف”، مخطوط الكلام لا حقيقته وروحه، صدى مظهره لا جوهره، ظل حسه لا معناه، فيما “يحرق” من يهجر القرآن الكريم في نفسه حقيقة وروح وجوهر ومعنى القرآن الكريم.
وهنا تتجدد من الغيب الشكوى النبوية القرآنية الدالة والخالدة: “وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَٰذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا”.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

خمسة + 18 =

زر الذهاب إلى الأعلى
MCG24

مجانى
عرض