
كلمات في الذكرى الأولى لرحيل أستاذ الأجيال الدكتور عباس الجراري
إعداد : د. منير البصكري الفيلالي / أسفي
برحيله يوم 20 يناير 2024 ، يترك أستاذنا الدكتور عباس الجراري أكرم الله مثواه ، في قلوبنا جرحا غير ملتئم ، يحجب عنا الكلام .. غادرنا ـ رحمه الله ـ إلى دار البقاء ، لكن ذكره سيبقى راسخا في أذهاننا ووجداننا مدى الحياة ، و سيبقى في قلوبنا حيا بيننا أبدا يرزق لا يعرف للموت معنى ، فلن ننساه ما حيينا . لن تغيب عنا ، فهي حاضرة لا تفارقنا ، فالعظماء لا يموتون أبدا .
أحبه الجميع بدون استثناء لتواضعه إلى أبعد الحدود ، كتب الله تعالى محبته في قلوب الناس جميعا صغارا وكبارا . فبساطته في الإلقاء وتلقائيته من أسباب قبوله وحب الناس له رحمه الله . دخل دنيا الناس من القلوب وخرج من الدنيا وبقي علمه وأسلوبه في القلوب .
علمنا ـ رحمه الله ـ الكثير ،فعنه تلقينا الخلق الحسن وعلى يده تربينا في ساحة العلم والمعرفة . فكان لنا أبا حنونا ودودا .. وإذ أنسى لا أنسى كيف كان يتعامل مع أبنائي وهم حينئذ صغار السن ، لطف وظرف ورقة وتعامل كله رأفة وحنان . كنت آخذ معي ابني المرحوم حمزة وهو في السادسة من عمره إلى بيت أستاذنا بحي الرياض ، لأعرض عليه فصولا من بحثي حول أطروحتي لنيل الدكتوراه في موضوع ” النزعة الصوفية في الشعر الملحون ” ، فكان يولي لابني اهتماما بالغا وكأنه واحد من حفدته ، مما كان يزيدني تعلقا بهذا الرجل الحنون .. بل زاد حنانه وعطفه يوم وفاة ابني حمزة ، حيث زارني صحبة رفيقة عمره الأستاذة الفاضلة لالا حميدة الصايغ لمواساتي ولتقديم العزاء فيما أصابني . فكيف لي أن أنساه ، وكيف لي ألا أستحضره في كل أوقاتي وهو من ترك في قلبي بصمات تزيدني شعورا بالحزن الدفين والعميق لوفاته . فمهما سطرت من حروف وكتبت من كلمات ، لن أوفيه حقه لما قدم إلي من علم ومعرفة وقيم نبيلة ، فزرع في وفي غيري من طلبته قيم المحبة والخير والصدق والوفاء . ويكفي أن أقول في حقه ما قاله حافظ إبراهيم في رثائه لأحمد شوقي :
خلقت في الدنيا بيانــا خالدا وتركت أجيالا من الأبنــــــاء
وغدا سيذكرك الزمان لم يزل للدهر إنصاف وحسن جزاء
لهذا ، سنظل نذكر أستاذنا ونذكر نبل أخلاقه وشيمه ..
الدكتور عباس الجراري إذن ، قامة وموسوعة حياتية في الأدب والخلق والتربية .. جمع بين دماثة الخلق والأدب الرفيع والعمل الصالح والعلم الغزير ، في ظهوره إجلال واحترام ، وفي غيابه افتقاد وشوق رحمه الله . رمز من رموز العلم والمعرفة ، صافح القلوب قبل العقول ، فكان عالما موسوعي المعرفة ، ملما بأدوات عصره ، لينا سمحا ، تخلق بخلق القرآن ، وتفرد بصفات قلما تجتمع في شخص واحد في زماننا . أديب فصيح ذو حجة وبلاغة وقلم هادف ، يخاطب العقل والقلب بآن واحد .. يحمل صفاء القلب ونقاء الروح ، رجل بأمة ، وقار وطيبة ، يزرع الأمل ويقتلع اليأس ، صادق النصح ، ناصح محب ، مبشر لا منفر ، مبتسم لا مكفهر ، رقيق لين ، حديثة نابع من خبرته الشخصية . عرفنا فيه كل هذه الصفات الجميلة وهو يشرف على بحوثنا ويؤطرنا ، حيث وهبه الباري سبحانه القدرة على تقديم العلم النافع العميق الراقي بالأسلوب السهل البسيط ، كل ذلك مع رقة في الطبع وصدق في الكلام طيب الله ثراه .
لقد ترك أستاذنا إرثا من العطاء العلمي المتزن لا يقدر بثمن .. أمضى أكثر من نصف قرن من عمره في خدمة الثقافة المغربية والهوية الحضارية بوفاء وإخلاص قلما نشاهد مثله . لم يتخذ من مهنة التدريس والتأليف وسيلة للثراء ، بل كان هدفه ـ رحمه الله ـ تطوير هذه الثقافة المغربية وتوطيد تلك الهوية الحضارية لوطننا . وبذلك يكون قد أدى الأمانة بأكمل صورها ورحل عنا كالشجرة واقفا شامخا ، وصدق القائل :
ما مات من زرع الفضائل في الورى بل عاش عمرا ثانيا تحت الثرى .
كان أستاذنا ـ رحمه الله ـ نموذج الباحث المفكر المبدع الذي يقوم بتعزيز ثقافة الحرية والتواصل مع محيطه ومجتمعه العربي الإسلامي ، من خلال أعماله وما لها من العمق الإنساني في الطرح، لا سيما مع استهداف الهوية ومداهمة العولمة والثورة التكنولوجية للمجتمعات العربية التي سلبت المثقف دوره ، وحق الإنسان في اختيار ثقافته الذهنية المستقلة دون الإضرار بالمجتمع ، مؤكدا على أهمية مخاطبة الشباب من قبل المثقفين والمبدعين لبناء أجيال قادرة على مواجهة التحديات في الراهن والمستقبل .فهو حامل مشعل الثقافة المنيرة، وصوت ضمير أمته الصادق نحو الحياة الحرة الكريمة والكرامة الإنسانية ، يظهر ذلك جليا من خلال قراءة كتاباته التي تتناول القضايا العربية والإسلامية بجوانبها النظرية والعملية مركزا على الجوانب الإنسانية والثقافية .. وهي كتابات تبلور رؤية مستقبلية جديدة تسهم في تعزيز ثقافة عالمية إنسانية ذات خصائص كلية محددة تعمل ضمن عوامل أخرى مهمة على النهوض الحضاري للأمة .
من هذا المنطلق ، يلاحظ أن هذه الأعمال الإبداعية للدكتور عباس الجراري التي تــَـرافـَـق فيها إيقاع التفكير مع إيقاع القوة في الخلق والإبداع ، بوأت الفكر الجراري مكانة أصيلة ، إذ إن إبداعاته الفكرية والثقافية ، تشكل في مجملها هدفا ومنبعا خصبا للحضارة الإنسانية وليس فقط للحضارة العربية الإسلامية . ومن ثمة ، يعد الدكتور عباس الجراري من أقوى وأذكى وأشهر من يكتب ويقود ويصنع ثقافة إبداعية رصينة ، غايتها استجماع قوة العالم العربي والإسلامي .. وهو ما أشار إليه أستاذنا الجليل بقوله : ” إنّ شتات العالم الإسلامي لا يمكن أن تلمَّهُ إلا الثقافة، حتى تتحقّق المصالحة التي نفتقدها اليوم بين المسلمين عبر المصارَحَة .. مضيفا في محاضرته التي افتتحت ” ملتقى الإيسيسكو الثقافي “، أن العالم الإسلامي يحتاج تشخيصا دقيقا لتراثه، وماضيه، لنحدّد الصالح فيه والطالح، فنحتاج أن نعرف التراث الحافل الذي يمتد قرونا على مختلف أصعدة العالم الإسلامي .. ولا يمكن الحديث عن الماضي المجيد دون بحث ونظر فيه، لأن شوائبَ كثيرة دخلته، ونحتاج معها تصفيته لنأخذ بصالحه . ”
إن المتأمل في هذا الكلام ، يدرك ـ لا محالة ـ عمقه وأصالته ، فهو صادر عن رجل خبر الفكر والثقافة وغاص في أعماقهما .. فشكل بذلك قفزة حضارية وهمسة تاريخية وظاهرة فكرية .. على أمتنا العربية الإسلامية أن تفتخر وتعتز بوجود أمثال هؤلاء الرجال لما يحملون من فكر إنساني عميق ، فكانوا مشاعل على دروب الثقافة الإبداعية ، فأنتجوا هذا التراث الأدبي الفكري الناضج ، وخططوا لنا لنكمل المسيرة بنفس الثوابت التي وضعوها ، وذلك على الرغم من التحديات والصعوبات التي أصبح يعرفها العالم اليوم ، مما كان سببا في الوضع الضعيف للثقافة خاصة في وطننا العربي . وهو ما يوضحه أستاذنا ـ رحمه الله ـ حين قال : ” إن من بين مشكلات الثقافة في العالم العربي الإسلامي اليوم، الانشغال بقضية التنمية ، وقضايا التقدم، والتركيز على الجوانب الاقتصادية والمالية، من صناعة وفلاحة، واستثمارات، علما أنها أمر أساسي وجيد، في حين أن التنمية وكل ما نسعى إليه ماديا، لن يقوم إلا إذا كانت الثقافة في انطلاقته؛ فهي وعي بالذات، ووعي بالهوية ومقوماتها، ووعي بالشخصية من لغة ودين ومعارف “.. ومن ثمة ، يضيف الدكتور الجراري قائلا :” إن القدرات موجودة في العالم الإسلامي، ومع الوعي بها والثقة فيها، يمكن أن نبدع وننتج الرقي والتقدم، في حين نستهلك اليوم التنمية والإنتاج اللذين يقدمهما لنا العالم الذي أحس بذاته وقدراته، دون تحقيق التنمية بمفهومها الشمولي المؤدي إلى الرّقيّ والتقدم ” .
على هذا الأساس ، تتجلى أهمية الثقافة في كونها تصنع الإنسان وتنمي قدراته وتوجه ميوله وتصرفاته في حياته وفي مختلف جوانبها الفكرية والجمالية والروحية ، معرفتها وتذوقها والتعايش بها، فوظيفتها بمثابة وظيفة التهذيب والتشذيب للشجرة والرعاية والعناية بها حتى تحيى وتنمو وتزهر وتثمر في أحسن الظروف ، ويمكن أن ترقى الثقافة بالإنسان كما في الدول الراقية ، حيث القيم والأنظمة الراقية، أو تتقهقر به كما في الدول المتخلفة حيث القيم والأنظمة المتخلفة، إلى درجة تجد فيها شعوب هذه الدول تتصرف على طرفي نقيض اتجاه نفس العادات والمعتقدات والمواقف ومختلف القضايا .
إن أستاذنا الجليل الدكتور عباس الجراري رحمه الله ، ما فتئ يبذل الكثير من الجهود منذ ما يزيد عن خمسة عقود في مجال تأسيس ثقافة إبداعية رصينة ومتزنة ، وينشر الاهتمام بالتراث المغربي جمعا وتحقيقا ودراسة، وإخراجه من غياهب النسيان وجعله في مصاف الآداب العربية والإسلامية والعالمية بما يزخر به من روائع النثر والشعر ونفائس التأليف على حد ما فعلت منظمة اليونيسكو وهي تدرج فن الملحون في القائمة التمثيلية للتراث الثقافي اللامادي للبشرية .
إن هذا الاهتمام قد أنتج عند الدكتور عباس الجراري ظهور مدرسة فكرية أدبية علمية ثقافية بحثية بالمغرب عنيت بإخراج تراث الوطن . ولطالما كان تراث الأمم ركيزة أساسية من ركائز هويتها الثقافية وعنوان اعتزازها بذاتيتها الحضارية في تاريخها وحاضرها ، ولطالما أيضا كان التراث الثقافي مصدرا للإلهام والإبداع والعطاء .. لتأخذ الإبداعات موقعها في خارطة التراث الثقافي ، ولتتحول تراثا ثقافيا يربط حاضر الأمة بماضيها . فهي ممتلكات وكنوز وسند مادي ولامادي ، من خلالها تستمد الأمة جذورها وأصالتها ، لتضيف لها لبنات أخرى في مسيرتها الحضارية ، لتحافظ على هويتها وأصالتها . وتأسيسا على هذا الأمر ، شغل فن الملحون أستاذنا الجليل الدكتور عباس الجراري منذ فترة غير يسيرة . نحن نعلم جيدا مدى تمسكه ـ رحمه الله ـ بالهوية والذاتية والشخصية المغربية . من هنا ، كان منطلقه في تناول التراث المغربي والفكر المغربي والهوية المغربية ، خاصة موضوع الملحون من حيث هو ذاكرة ، وفي سياق واقعه من منظور الآفاق التي تنتظره . ولا يخفى على أحد أن فن الملحون جزء مهم وركن ركين في التراث الشعبي بصفة خاصة والتراث الفكري والثقافي بصفة عامة .. وهو أيضا مع بقية أنواع التراث الأخرى ، مكون لذاتيتنا وهويتنا ، ولا يمكن التفريط فيه . نظر إليه أستاذنا كواقع أدبي وفني مكتمل الأوصال ، أي أنه اكتمل في مضامينه وأشكاله وأساليب تقديمه وترديده وإنشاده . تبحث الكلمات عن حروفها، وتنبش العبارات في أرجاء سطورها في محاولة لاسترجاع الذكريات التي مررت بها وأنا أبحر في لج كتابات أستاذنا ـ رحمه الله ـ متجولا بين مقالاته ومحاضراته ، مسافرا بين ثنايا روائعه التي ترحل بالخيال لجماليات اللغة، وبهاء المعاني، ورونق الأسلوب وبساطته، والتي تغوص في أعماق تاريخ أدبنا المغربي في شقيه الفصيح والملحون ، لأجد في كل ذلك سحرا أخاذا تنتشي معه أرواحنا وينتعش به وجداننا .. فرحم الله أستاذنا الدكتور عباس الجراري و تغمده بواسع رحمته وأجزل له المغفرة والرضوان ، فلا عزاء في فقد الأعزة إلا بالصبر إذ به يكتب الأجر .