
صدى رجالات أسفي في التاريخ – الحلقة 85
إعداد: الدكتور منير البصكري الفيلالي / أسفي
لقد استطاع محمد عصفور أن يكسب التحديات الاجتماعية واليومية دون أن تكون حياته مليئة بالأضواء أو الشهرة. ومع ذلك، منحتنا أفلامه فرصة الاقتراب من عوالمه، حيث استطاع أن يتغلب على الكثير من التحديات والصعوبات التي خاضها وحيدا في الظل ليضع بين أيدينا تجربة سينمائية فنية، نقلها صامتة لتتغلغل بسكون داخل الذاكرة الوطنية. ففيلمه ” الإبن المعاق ” كان أول مولود أنجبته السينما المغربية سنة 1958، فيلم من إنتاج وإخراج وسيناريو وتصوير ومونتاج وتشخيص محمد عصفور .. تدور قصته حول انحراف الشباب والإهمال الذي يتعرضون إليه داخل الأسرة، مما يؤدي بهم إلى ارتكاب الجرائم.
ولعل أبناء درب السلطان بالدار البيضاء، ممن عايشوا أعمال محمد عصفور، يتذكرون صفيره ليعبر عن صوت الريح، كما يتذكرون دقات اليد التي تعوض اللكمات، ويتذكرون أيضا أن هذا الرجل كان أول من اشتغل سنة 1958 بكاميرا مقاس 36 ميليمترا في فيلمه المشار إلى عنوانه سابقا ” الإبن المعاق ” في مدة خمسين دقيقة بالأبيض والأسود.
وعن علاقة محمد عصفور بدرب السلطان، يقول مؤلف كتاب (عصفور عشق اسمه السينما) ” انتقل عصفور إلى منطقة درب غلف رفقة عائلته، وبدأ يشتغل في بيع الجرائد ، وهذا جعله يحتك بالأجانب ويشتغل معهم فيما بعد، وفي الوقت ذاته، كان ذهنه مركزا على التعلم، فحصل على كاميرا من جوطية درب غلف، بالتزامن مع مشاهدته لأفلام كانت تعرض بمنطقة عين الذئاب . وبعد الإنزال الأمريكي بالمغرب ، توقف عن التمثيل .. ” وخلال فترة 1945 / 1948 كان يجرب موهبته بمحاولة تصوير بعض الأفلام القصيرة، واستأنف العمل في الخمسينيات .. وفي هذه الفترة زاد ولعه بالسينما بشكل غريب، يجد تجليه في استغلال مرآب كان يعمل فيه يوم الأحد لعرض أفلام صغيرة من سينما ” ابن الغابة ” ” شارلوط ” ..ومن خلال هذه الأعمال، كان محمد عصفور الممثل والمنتج والمخرج والضابط للمداخيل ، كما كان في الوقت ذاته يكتري أفلاما ويقدمها لجمهور درب السلطان مثل أفلام ” زورو ” و ” روبين دي بوا « . وكان هذا الحي بمثابة فضاء لالتقاء عشاق هذا الفن..
إذن، ” فبين حيطان درب السلطان ، تسكن الذكريات السينمائية ، وتتولد أطياف سينما تجريبية بلمسات مغربية. في هذا الحي، جرب شيخ السينما المغربية محمد عصفور بآليات بسيطة أن يهب المغاربة عبر إهداء فقراء هذا الحي محطة جنينية لانبثاق حلم سينما مغربية “.
وعلى الرغم مما قدم محمد عصفور للسينما المغربية في أول إنتاجاتها المبكرة، وعلى الرغم أيضا من أنه لم يمارس الإخراج السينمائي بمعناه الحقيقي ، بل اكتفى بممارسة الحرف والمهن المرتبطة بالسينما .. إلا ” أن ما قام به من مجهود تأسيسي عصامي في وقت كان فيه المغرب أبعد ما يكون عن الصناعة السينمائية، كسب الراحل محمد عصفور شرعية جعلت منه أستاذا لجميع السينمائيين المغاربة ” .
وإذا كان السينمائي محمد عصفور، قد تمكن من مزاولة السينما في صورتها البدائية منذ وقت مبكر جدا، فهذا لا يعني بأي حال من الأحوال، الإجماع على أن ما قام به يعد البداية الحقيقية للسينما بالمغرب. فبالنظر إلى أعمال هذا العاشق للسينما نظرة منطقية، نستنتج أنه لا يمكن لأعماله إلا أن تصنف في خانة السينمائي الهاوي الذي يبحث عن منفذ لإرضاء نفسه ولإشباع فضوله. فعشقه الجارف رغم ضعف إمكانياته المادية والمعنوية ، مكنته من وضع بصمة مشرفة له في تاريخ السينما بالمغرب، لكنها لم تمكنه من تبني البداية الحقيقية لهذه السينما ، خاصة إذا علمنا أن جل أعماله في هذا الميدان أيضا لم تخرج بتاتا عن محاكاة باهتة للنماذج السينمائية الغربية على نحو سينما ” رعاة البقر ” أو “طرزان ” أو ” الكراتيه ” أو ” الدراما الهندية “. ورغم هذا وذاك ، فإن أعمال محمد عصفور السينمائية، لا يمكن للباحث السينمائي تجاوزها .. فهي أعمال تمكنت من فتح باب النقاش على صعيد الساحة النقدية المغربية. فهناك من النقاد من ينتقد أعمال محمد عصفور ويعدد ثغراتها وهزالها .. وهذا رأي لا يخلو من صواب، إلا أنه يخطئ في محاكمة أعمال هذا المبدع السينمائية بمعزل عن واقعها التاريخي الذي نشأت فيه . إن هذا الرأي يعتمد في مقاربة أعمال عصفور التأسيسية والبسيطة على آليات معرفية حديثة ، ومفاهيم نقدية سينمائية متقدمة مستقاة من روائع السينما العالمية.
وعلى أية حال ، يبقى محمد عصفور رائدا للسينما المغربية في بداياتها ، ويبقى مع ذلك كله ذاكرة سينمائية بامتياز ، يمكن من خلاله الحديث عنه كمبدع ، وأيضا يمكن من خلال أعماله بناء جوانب متعددة من ذاكرة السينما المغربية . وعلى الرغم من كون محمد عصفور لم يكن يتوفر على ثقافة سينمائية عالية ، لكن يكفيه أن وضع اللبنات الأولى لصناعة سينما مهلهلة بأدوات متجاوزة في عصر عرفت فيه السينما العالمية تقدما كبيرا وقطعت فيه أشواطا متقدمة ، سواء من حيث الموضوعات التي كانت تعالجها ، أو الآليات التي كانت تسخرها وتوظفها في العمل السينمائي.
فهل تم التفكير ـ بشكل جدي وموضوعي ـ في التوثيق للذاكرة السينمائية في المغرب، على امتداد سنوات مضت؟ لأن في هذا الأمر ، الحرص التام على أمن وسلامة الذاكرة السينمائية الوطنية من جهة، وإعطاء الفرصة المناسبة لتكوين ونقل خبرة أمثال محمد عصفور إلى الأجيال الحاضرة والقادمة، بهدف تطوير قدراتهم الذاتية والاستفادة من أعمال الرواد الأوائل ممن أفنوا زهرة شبابهم في خدمة السينما المغربية، على الرغم من تواضع الأعمال التي قدموها، وفي طليعتهم محمد عصفور. ولمدينة أسفي أن تعتز بهذا الرجل المبدع الذي بصم على تقديم أعمال سينمائية، في وقت قلت فيه الإمكانيات أو كادت أن تكون منعدمة .. لكن همة الرجل وحماسه ورغبته في الإبداع، كل ذلك دفعه ليكون منتجا بدل أن يكون مستهلكا، وتلك شيم رجالات أسفي الذين ألوا على أنفسهم أن يكونوا منتجين كل من موقعه.
انتهى .