
المسجد والمدرسة والمستشفى و”مكر” المفاضلة…
محمد التهامي الحراق
أمس صباحا، وكان يوم جمعة، صادفت أحد البرامج التنشيطية الصباحية على إحدى الإذاعات الخاصة المغربية….وكان السؤال التفاعلي مع الجمهور يقضي بأن يتصور أحدهم أن لديه قدرا ماليا عليه أن ينفقه في بناء مرفق واحد من المرافق الثلاثة التالية: إما مسجد أو مدرسة أو مستشفى. وقد توالت الاتصالات الهاتفية وكذا الإجابات على صفحات البرنامج على مواقع التواصل الاجتماعي، تختار المدرسة في الغالب، وبعضها المستشفى، والأقلية من تختار المسجد. وفيما كان أهل الخيارين الأول والثاني يسهبون في بيان أسباب اختيارهم، كانت أقلية الاختيار الثالث محرجة تميل إلى الصمت عن التعليل.
لست أبغي، هنا، مصادرة حق الاختيار لدى الناس، ولكن أروم الكشف عن المسبقات غير السليمة التي تحكم طرح السؤال نفسه، مما قد يجعل السؤال لا يخلو من “مكر” أكان عن وعي أم عن غير وعي. وهذه بعض الإضاءات الموضحة:
_ أن يطرح هذا النوع من الأسئلة “التنشيطية التفاعلية” صبيحة يوم الجمعة، برمزيته الدينية، حيث يتبوأ المسجد مكانة استثنائية باعتباره محضن صلاة الجمعة؛ أكبر تجمع تعبدي روحي للمسلمين في الأسبوع،…أمر يجعل الارتياب يطول النية الكامنة وراء السؤال؛ خصوصا وأن الإذاعة المقصودة ظلت تفتخر بكونها احتلت “المرتبةالأولى” في آخر قياس لاستماع الإذاعات بالمغرب، وتتلقى التهاني على ذلك، دون أن يتم تنسيب هذه “الأولية”، وأن هذه المرتبة تتعلق بترتيب الإذاعات الخاصة، متغافلة عن كون إذاعة محمد السادس للقرآن الكريم، وعلى مدى أكثر من عقد وإلى اليوم، هي الأكثر استماعا في التراب الوطني المغربي، وبفارق كبير عن غيرها. وهي الحقيقة التي يتم تعويمها حين لا تقيد المرتبة الأولى لهذه الإذاعة الخاصة بترتيب الإذاعات الخاصة، وإلا فالواقع بخلاف ذلك.
_ يضمر الربط بين زمان السؤال ومحاولة استبعاد إذاعة محمد السادس للقرآن الكريم من الترتيب، ولو كان ذلك لغايات تجارية تسويقية؛ يضمر ذلك نوعا من “المكر” في الطرح، بغض النظر عن النوايا، فهنا النيات بالأعمال؛ أي أن الأعمال هي التي تكشف النيات لا العكس. وقد ظهر هذا التوجيه في السؤال وفي نتائج ميول الناس المتوقعة، بل والمتحكم فيها بطريقة وضع السؤال وسياقه.
_ لست هنا، لأنتصر للمسجد على المدرسة والمستشفى، فأنا أرفض “مكر” المقارنة أصلا بله المفاضلة ، وقد سبق لبعض التوجهات العلمانوية أن تبنت نفس “الإميات” التي طرحها سؤال البرنامج بنفس المكر، والذي يهدف إلى خلق توتر داخلي لدى الناس بين دينهم الذي ترمز له مؤسسة المسجد وبين الحياة، باحتياجاتها التعليمية والصحية. في حين أن السؤال يجمع ما لا يجتمع، وأنه يضع في مصفوفة واحدة ما لا معيار يجمعه، كمن يقيس المسافة والسوائل والكتلة…بنفس الوحدة القياسية. وهذا وجه من أوجه “المكر” المذكور .
_ لقد رام السؤال الإيهام بالتناقض بين المسجد والتعليم والاستشفاء، وكذا الإيهام بأن المسجد مكان لا يصلح لشيء غير العبادة الشعائرية، في فهم سقيم لمفهوم “العبادة”، وفي تقزيم وتحجيم واختزال لوظائف مؤسسة المسجد، التي كانت تجمع بين العبادة والعلم والسياسة والاستشفاء والقضاء…، وهي اليوم مازالت تقوم بأدوار تعليمية (محاربة الأمية، دروس الوعظ، دورات تكوينية…)، وتساعد على الاستشفاء (الطمأنينة الروحية والراحة النفسية، التبرع بالدم داخل المساجد، مجموعة من التبرعات لبناء المستشفيات والمدارس انطلقت من المسجد أو بحافز من خطب منبرية أو وعظية محفزة على الإحسان والتكافل الاجتماعي؛ بل ثمة برامج إذاعية إحسانية في بعض الإذاعات الخاصة تتبنى الخطاب الديني الذي محضنه ومنبعه مؤسسة المسجد، وتعتمد مفاهيمه وتصوراته والعاطفة التي يغذيها من أجل تحفيز الناس على مساعدة المحتاجين إلإجراء عمليات جراحية وطبية مكلفة …).
_ إن طرح السؤال بالصيغة الماكرة المذكورة، يحجب كون من يتوجه لبناء مدرسة أو مستشفى هو في عمقه يبني مسجدا رمزيا، لأنه يعلم أو يحيي إنسانا أمرنا الحق سبحانه بتعظيم حرمته، إذ هو أعظم حرمة من الكعبة التي نتوجه إليها في صلاتنا بالمسجد كما أخبرنا رسول الرحمة صلى الله عليه وسلم، فضلا عن كون الأرض جعلت لنبينا مسجدا وطهورا. ومن ثم، فحقيقة المسجد ليست أسواره، وإنما خطابه المتمحور حول إثمار الصلاة بتوهيج الإيمان والنظر إلى الوجود المسبح، وتكريم الآدمية بالتعليم والتطبيب وقضاء الحوائج ونفع الخلق. ولذلك تعد المدارس والمستشفيات امتدادا للمسجد، وليست أبدا منافسة له، بدليل أن المسجد كان في التاريخ الإسلامي مركز تعليم وتطبيب…، مما يعني أن فصل المؤسسات اليوم لا يفيد بحال تناقضها، بقدر ما يفيد أن المؤسسات التعليمية والاستشفائية هي امتداد رمزي للمسجد. فالمسجد، بهذه المثابة، فكرة لا بناية، معنى لا مبنى، أو قل مكانة لا مكان، ذاك ما رمز إليه الشيخ الأكبر حين أفضى: “كل مكان لا يؤنث لا يعول عليه”.
هكذا نتبين أن المغالطات تسكن السؤال المطروح من لدن الإذاعة إياها؛ سؤال وجه الناس نحو أجوبة متوقعة أصلا، وفي ذلك تكريس لصور طقوسية سلبية مغلوطة عن الدين وعن المسجد هما براء منها. فإن كان ذلك عن غير قصد فتلك مصيبة، وإن كان ذلك مقصودا فالمصيبة أعظم….بوركتم.