تأملات

“إِلَّا مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُوْلَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا” [سورة الفرقان]

الحمد لله غافر الذنب وقابل التوب شديد العقاب، وأشهد أن لا إلا الله القائل: {إِلَّا مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُوْلَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا} [الفرقان].
وأشهد أن سيدنا وحبيبنا محمدًا عبده ورسوله القائل: «أيها الناس توبوا إلى الله واستغفروا فإني أتوب إلى الله في اليوم مائة مرة»
أما بعد : فإنها فرصة سانحة وعظيمة، فرصة للتوبة والإنابة والاستغفار .
أيها الإخوة والأخوات:
إن ربكم جلَّ في عُلاه من فضله على عباده، وإحسانه ورحمته ورأفته، أن جعل التوبة مبسوطةً الأجل، ممدودة الزمن ليست مُحددةً في زمانٍ أو في وقتٍ لا تكون إلا فيه، بل يبسط يده بالليل ليتوب مُسيء النهار، ويبسط يده بالنهار ليتوب مُسيء الليل، وهذا يُبين أن التوبة كلما كانت قريبةً من الذنب، كان جديرًا بأن يغفره الرب سبحانه وبحمده، فتُب إلى الله من كل خطأٍ وزلل، وإيَّاك والاغترار، وإياك والظن أنك لست بحاجةٍ إلى التوبة.
وإليكم مفهوم التوبة لغة واصطلاحا :
إنَّ التوبة بمعناها اللغويّ تأتي بمعنى الرجوع.
أمَّا في الاصطلاح الشرعيّ فهي عبارة عن: “ترك الذنب مخافة الله، واستشعار قبحه، وندم على المعصية من حيث هي معصية، والعزيمة على ألا يعود إليها إذا قدر عليها، وتدارك ما أمكنه أن يتدارك من الأعمال بالإعادة”،[1] وقد دعا الله -عزَّ وجلَّ- عباده إلى التوبة في كلِّ زمانٍ، حيث قال في كتابه الكريم: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَّصُوحًا}[2]، إلَّا أنَّ التوبة في شهر رمضان أولى وأحرى، وذلك لأنَّها فرصة عظيمة لتكفير السيئات، كما أنَّ المسلم يجد في هذا الشهر العظيم من العون ما لا يجده في الأشهر الأخرى، حيث إنَّ فرصة الطاعة تتوفر به كما أنَّ أبواب الشرِّ تضيق،[3]. ولذلك سيتم تخصيص هذا المقال للحديث عن التوبة في رمضان، كما سيتم ذكر ما تيسر من فضل التوبة ووقتها وحكمها وآتارها إن شاء الله تعالى.
إنَّ شهر رمضان المبارك موسمٌ للبرِّ والتقوى،[4] حيث قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ}،[5].
كما أنَّه فرصة عظيمة يجب على المسلم اغتنماها لمحاسبة النفس على ما مضى من السنوات، فإن كان خيرًا فعلى المسلم أن يثبت على ذلك ويستزيد، وإن كان شرًا فعلى المسلم أن يتوب إلى الله ويرجع وأن يُكثر من عمل الطاعات لتُمحى عنه السيئات،[6] حيث قال تعالى: {إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ}،[7] ويكون اغتنام شهر رمضان بأن يقضي المسلم أيامه الثلاثين بشكلٍ منضبط ويكون ذلك بالصيام والقيام, وإنفاق المال وضبط اللسان، فيعود بذلك كما ولدته أمُّه خاليًا من الذنوب،
فعلى كل واحد منا أن يعلم علم اليقين, أن شهر رمضان يشرق علينا كل عام ببركته وأنواره، وتتسارع نحونا خُطاه، وهو سوق الخير العميم، والفضل الجزيل، شهر التوبة والمغفرة والعتق من النار، فعن أبي هريرة رضي الله عنه، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا كان أول ليلة من رمضان صفدت الشياطين ومردة الجان، وغلقت أبواب النار فلم يفتح منها باب، وفتحت أبواب الجنة فلم يغلق منها باب، ونادى مناد: يا باغي الخير أقبل، ويا باغي الشر أقصر، ولله عتقاء من النار وذلك كل ليلة» (الترمذي).
إنه شهرُ التّوبات وإجابة الدّعوات وإقالة العثَرات، شهرٌ يفرَح به كلُّ مسلم مهما كان حاله، فالمحسِن يزداد إحسانًا وإيمانًا، والمقصِّر يستغفِر ويبتغي فيه من الله تعالى رحمةً ورضوانًا.
محطات للتائبين:
الغفران قرين التوبة، قال تعالى: {وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ} [الشورى:25] أيها الإخوة والأخوات:
ليست النجاة في أن تتوب لأيام، إنما النجاة في أن تتوب على الدوام، وتلك أخص صفات التوبة النصوح، قال تعالى: {إِلَّا مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُوْلَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا} [الفرقان] من منّا يَسْلَمُ من الخطأ، أو الوقوع في الزلل، أو مقارفة الذنوب، فكلنا ذو خطأ وخير الخطّائين التوابون المستغفرون. فقد روى الترمذي في سننه (عَنْ أَنَسٍ أَنَّ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ : «كُلُّ ابْنِ آدَمَ خَطَّاءٌ وَخَيْرُ الْخَطَّائِينَ التَّوَّابُونَ»، فمهما بلغت ذنوبناً ومعاصينا، فالله –تعالى- يغفرُها، فإنَّ من أسمائه جلّ وعلا (الغَفُورَ)، ومن صفاته (المغفرة) وهذا يدل على حاجة العباد إلى مغفرة ذنوبهم، ويدل على عدم عصمتهم من الوقوع في الذنب، قال تعالى: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [الزمر: 53]. وروى مسلم في صحيحه (عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ قَالَ ،قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- «وَالَّذِى نَفْسِى بِيَدِهِ لَوْ لَمْ تُذْنِبُوا لَذَهَبَ اللَّهُ بِكُمْ وَلَجَاءَ بِقَوْمٍ يُذْنِبُونَ فَيَسْتَغْفِرُونَ اللَّهَ فَيَغْفِرُ لَهُمْ ». وفي شهر رمضان يُلهم الله فيه النفوس الآثمة والقلوب الهائمة، لترجع إلى مولاها، وتصحح المسار، وتصحب الأخيار، وتترك طرق الغاوين الفجّار، وتتطهّر من الأقذار والأكدار، وتتخفّف من الذنوب والأوزار، لتسْلَم من الأخطار يوم العرض على الجبّار، وتدخل جنات تجري من تحتها الأنهار، وتنظر إلى وجه الرحيم الكريم الغفار. فرمضانُ هو شهر الغفران، إذ تكثر فيه أسبابُ المغفرة؛ لأنه شهرُ الرحمة، وشهر المغفرة، وشهر العتق من النار، وشهر الإحسان، فهو فرصةٌ عظمى لمحو الذنوب والمعاصي والوقاية من النار.
أيها الإخوة والأخوات:
من لم يغفر الله له في رمضان فمتى سيغفر الله له؟ ومن لم يحقق الأسباب الجالبة للمغفرة فماذا يرجو من ربه بعد ذلك؟ ،(عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ قَالَ ،قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- : « رَغِمَ أَنْفُ رَجُلٍ ذُكِرْتُ عِنْدَهُ فَلَمْ يُصَلِّ عَلَىَّ وَرَغِمَ أَنْفُ رَجُلٍ دَخَلَ عَلَيْهِ رَمَضَانُ فَانْسَلَخَ قَبْلَ أَنْ يُغْفَرَ لَهُ وَرَغِمَ أَنْفُ رَجُلٍ أَدْرَكَ عِنْدَهُ أَبَوَاهُ الْكِبَرَ فَلَمْ يُدْخِلاَهُ الْجَنَّةَ » [أخرجه الإمام أحمد الترمذي والحاكم وصححه الألباني]، والمعنى -والله أعلم- ذلّ أنفُ رجُلٍ ودُسّ في الرَّغام -وهو التراب- دخل عليه رمضانُ ولم يُغفر له فيه.. ولخطورة الأمر نجدُ اللهَ –تعالى- نوّعَ أسبابَ المغفرة في رمضان، من أجل أن يغفر ذنوبَ العباد خلال هذا الشهر، ويخرج كل مسلم من هذا الشهر كيوم ولَدَته أمُّه، ليس عليه من الذنوب شيء.
فمن أسباب المغفرة في رمضان، الصيام بالنهار إيماناً بالله، وامتثالاً لأمره، واحتساباً للأجر والثواب من عند الله تعالى، ففي الصحيحين البخاري ومسلم (عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ قَالَ ،قَالَ رَسُولُ اللَّهِ – صلى الله عليه وسلم – « مَنْ صَامَ رَمَضَانَ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ » وفي الحديث الآخر (عَنْ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ : «إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ فَرَضَ صِيَامَ رَمَضَانَ وَسَنَنْتُ قِيَامَهُ فَمَنْ صَامَهُ وَقَامَهُ إِيمَاناً وَاحْتِسَاباً خَرَجَ مِنَ الذُّنُوبِ كَيَوْمِ وَلَدَتْهُ أُمُّهُ »[رواه النسائي واللفظ له، وأحمد وقال الشيخ أحمد شاكر: إسناده صحيح]. 2) القيام بالليل إيماناً بالله واحتساباً للأجر من عند الله، لا لرياءٍ ولا لسمعةٍ ولا لدنيا ولا لصحةٍ، وإنما طلباً للثواب من الله جلّ وعلا؛ (وأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ – صلى الله عليه وسلم – قَالَ : « مَنْ قَامَ رَمَضَانَ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ » متفق عليه. 3) قيام ليلة القدر إيماناً واحتساباً، لأنها ليلةٌ خيرٌ من ألف شهر، من حُرِم خيرها فقد حُرم؛ قال عليه الصلاةُ والسلام: « مَنْ قَامَ لَيْلَةَ الْقَدْرِ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ ، وَمَنْ صَامَ رَمَضَانَ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ» متفق عليه. 4)
فالانسان الخطاء في سرٍّ أو علن، ظاهرٍ أو باطن، في حق الله أو في حق الخلق، لا سبيل للنجاة من شر تلك الخطايا، إلا بالتوبة إلى الله – عزَّ وجل -، حيث تاب الأنبياء وتاب الرُسل، وتاب الصالحون، وهكذا ينبغي أن يكون كل مَن رَغِبَ فيما عند الله تعالى وحرِص على الفوز بما عنده أن يتوب إليه توبةً صادقةً، والتائب من الذنب كمن لا ذنب له .
جعلنا الله وإياكم من التائبين، وسلك بنا سبيل المنيبين إليه، والقائمين بحقه، وأعاننا على ذكره وشكره، ٱمين يارب العالمين، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا إلى يوم الدين.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

9 − اثنان =

زر الذهاب إلى الأعلى
MCG24

مجانى
عرض