مجتمع

في ذكرى لا كالذكريات نفاسة

إلياس بناني
لم تزل نشقات الذكريات تزدحم مع بزوغ أول ليلة من شهر ربيع النبوي كل سنة، بل ربما مع كل مرة نعلم فيها اقتراب دخول الشهر، فتتواشج الذكريات بالمشاعر، وتتعانق صور الأحداث مع ذلك الطيف من المتعة التي لم تزل راسخة الجذور في القلب منذ نعومة الأظافر، فكأن القلب يسترجع طفولته مع حلول الذكرى في كل مرة.
كل مغربي قد تشكلت لديه منذ طفولته سيمفونية عذبة الألحان جميلة الترانيم في مخيلته عن المولد النبوي الشريف وأجوائه، إذ يرتبط هذا العيد عنده بالفرح والسرور المتعلق أساسا بجوٍ من الروحنة والمحبة الخالصة للمصطفى صلى الله عليه وسلم، إذ لم تزل تلك القلوب الجذلى تردد الصلوات عليه صلى الله عليه وسلم على ذات النسق الذي تربت عليه وهي تسمعه من بين ثنايا الآباء والأمهات في كل مرة تحضر فيها الذكرى، فتنطبع الصور مع الصيغ مع الألحان والأوزان لتشكل لوحة عنوانها الفرح والسرور بالمصطفى صلى الله عليه وسلم.
ويحضر مع الذكرى صور الأمكنة التي لم يزل يرتادها المحبون له عليه الصلاة والسلام من المساجد والزوايا والأضرحة، وكيف كان يعيش الأطفال بين ردهاتها في جو من الفرح الذي يتعلق فيه اللعب بالخشوع مع الإكبار والجلال، ولاسيما لما يأخذ الأب بيد ابنه ويقيمه بجانبه ويلقنه ما يردده أو يناوله ما بيده من القصائد والمدائح التي تكون البردة والهمزية بمنزلة الطغرى منها جميعا، فيشعر ذلك الطفل في لحظته تلك أنه كبر فجأة وأنه صار ملحوظا بعناية خاصة، وقد يدرك ذلك بعض من يُحملون بين الأيدي على صدور الأمهات لما تحملهم على الأكتاف ليروا ويشاهدوا لحظات الفرح والتواجد عند ذكر النبي صلى الله عليه وسلم، وتنطلق من حناجرهن زغاريد تجمع كل تعبير عن الفرح بما لا تستطيع اللغات أن تعبر عنه بحروفها وتراكيبها، فكأن الزغرودة في امتدادها وصدحها وترددها والتقائها مع صيغ المصلين على الجناب الأطهر تجمع ما يقال وما لا يقال، وتوحي بأن كل ما قيل إنما هو شيء قليل في حق من كان رحمة للعالمين، لتكون تلك الأصوات المتعالية بمثابة التمهير على ذاكرة الطفل وهو ينشأ، فحيثما سمع لحنا جميلا أو زغرودة إلا وحضرت الذكرى بين عينيه، فتقفز ابتسامة تفتر عنها ثناياه في كل مرة، ولا يرجع الطفل إلى بيته تلك الليلة إلا وهو يردد:
مولاي صل وسلم دائما أبدا    على حبيبك خير الخلق كلهم
وقد يردد بعض الكلمات همزية الروي قوية الجرْس، تزيد من عمق تشبعه وترسيخ معاني ما سمعه وإن لم يفهمها، على حد ما يحرص عليه طلبة القرآن في الكتاتيب وهم يكررون الآيات والأنصاص ويضغطون بقطعة خشب صغيرة تسمى”الدكّار” على اللوح، فمع كل ضغطة ترسخ الكلمة أكثر، في تناغم بين حركة الجسد وقوة الحفظ في الذاكرة، وترسخ الكلمات في عقل الصبي وتَنْشَدُّ إلى ذاكرته كانشداد البخور- الذي تضوعت به أجواء ومجالس المديح حين الاحتفال – على ثيابه، فيرجع مبتهجا مسرورا، وتحضر الذكرى في عقله كلما استنشق البخور أو وجد رائحة الزهر المعتّق، وهو ما لم يزل متواترا لدى المغاربة، أنهم متى ما وجدوا رائحة العود إلا وصلّوا على النبي صلى الله عليه وسلم، فذلك كله مزيج من الذكريات يستحضرها الطفل بسعادة كما يستحضرها الكبار بحنين كلما سمعوا أو رأوا أو استنشقوا أو تذكروا ما يعيدهم إلى لحظات الحب ومجالي الفرح والسرور.
أثناء تلك الطفولة التي لم تكن إلا مدرسة لتنشئة كيان المرء على شخصية مستقلة ومنتمية في ذات الآن إلى ذاكرة جماعية ومزيج تربوي خاص، يكبر الرجل في روح الطفل، فإذا شبّ وجد نفسه تتوق إلى تلك المعاهد التي نشأ بين جنباتها، ولكن الآن بقلب أكثر نضجا وروح أكثر حضورا، فيستبدل دور المتفرج بدور المشارك، ويجد نفسه مندفعا بقوة نحو عالم من النور، نور القيم ونور الفرح ونور البذل ونور الإخاء، دون تزاحم بينها جميعا، فالأنوار لا تتزاحم، على حد عبارة العارفين. فما يزال التوق بالمرء حتى يغدو شوقا يحمله على أجنحة الذكرى في كل مرة ليسمع ويتسمع بين ثنايا التاريخ إلى أنغام المادحين ما علق بعقله وعلى طرف لسانه، وما لم تزل أمه تردده على مسامعه حين احتضانه على صدرها أو وهي تهدئ من روعه في ليلة من الليالي أو وهي تنوّمه أو وهي تخفف عنه أو تسليه عن حرارة حمى ألمّت به وهو بعد في مرحلة القماط، فتقول:
مولاي صل وسلم دائما أبدا    على حبيبك خير الخلق كلهم
إن الذكرى في ألقها اللامتناهي هي فرار نحو النسك من عالم انطفأت فيه شعلة الروحنة في الكثير من جوانبه، أو من شخصية تتجاذبها الإكراهات في مجالات شتى في الحياة والمسؤوليات، فلا تجد في غير ذلك الحنين ملاذا ولا في غير ذلك الجو المفعم بالمحبة والأنوار مستراحا، فينبجس الذكر بكل معانيه مع كل ذكرى، حيث يجد ذلك الرجل لسانه يردد ويذكر ما لم يزل يتردد في نفسه وعقله وكيانه مما أدخل عليه السرور يوما، وهو يذكر كذلك مستحضرا غير ناسٍ الأجواء التي عاشها، ويشعر بالذكر أي المكانة التي نالها بين الناس وهو صغير، كل ذلك يتدفق في لحظة الذكرى ويربط الماضي بالحاضر، ويشِج الإنسان بالمثل الأعلى صلى الله عليه وسلم.
يرشُد ذلك الرجل في دروب الحياة، ويرشد برشده مجتمع بأكمله على ذات النسق من القيم والمعاني والجمال، ويحيي مع خِلّانِه من وجدان الفرحة ما كان يجده وهو يخرج يجري من الكتّاب مع رفقائه مسرورا بعد أن أعلمهم “الفقيه” أن يوم عيد المولد النبوي عطلة، ذلك التقليد الذي رسّخه أبو القاسم العزفي بعدما تشبع بما ربّاه عليه والده أبو العباس من الاحتفال بمولد المختار صلى الله عليه وسلم وألّف كتابه “الدرّ المنظم”، فما كان من أبي القاسم إلا أن مزج بين الاحتفال بالمولد النبوي الشريف وبين جعل المناسبة فرصة لاستحضار الفرح والسرور في مخيال الطفل، بحيث سيرتبط عنده الفرح – لا شعوريا – بالذكرى مباشرة، ويتذكر معها ذلك الجو من البراءة والعفوية مع زملائه، ويستحضر نفسه وهو يلبس الجديد أو الأبيض من الثياب ويكون في الصفوف الأمامية مع زمرة المادحين للمصطفى صبيحة عيد المولد النبوي الشريف، ينطلقون زمرا زمرا من أحد الأضرحة أو إحدى الزوايا، يمشون بتؤدة ووقار وهم يصدحون بالمدائح في أنغام تثير الرهبة في النفوس، وتطل عليهم النساء يشاركنهم أجواء الفرح بزغاريدهن وصلاتهن على صاحب الجاه العلي صلى الله عليه وسلم، فيترسخ عنده التعلق بالدين وينصرف عن كل بهرج أو باطل، بل سيعمل وهو الرجل الراشد على أن يعيد تلك الأجواء بفصها ونصها كلما حلت الذكرى ويصدح بالمدائح يستنزل بها الرحمات على قلبه والأنوار على روحه ويستجلب مودة المصطفى عليه الصلاة والسلام ليرد عليه السلام بعدما علم أن الله تعالى يرد عليه روحه فيرد على من يسلم عليه، وهو في كل ذلك يعيش أجواء مكتنزة بالروحنة تأخذه في كل لحظة إلى تعلق المسلم بربه وبنبيه صلى الله عليه وسلم في كل ظرف وحين، إذ هو ذاته الطفل الذي كان يخرج من الكتاب حاملا لوحه بين يديه بجانب رفقائه، يتقدمون صفوف الشُعثِ الغُبْرِ للاستسقاء واستنزال رحمات الله تعالى بمن لم يذنبوا ولم يعصوا. إنها ذات الأجواء وذات الهم الذي يسكن وجدان كل من تربى في أحضان الذكرى وعلى عين المودة وتحت سراج التعلق بالجناب النبوي الشريف.
تلك الذكرى وهي تبزغ في كل سَنة كأنها توقظ البشرية من سِنة الغفلة عن باب الرحمة الأعظم، وتحيي سُنة الفرح في القلوب التي أصابها الاكتئاب والضجر وافترستها مخالب المادة، ذكرى تكون بمثابة الصقال للأفئدة والبرهان على حقيقة تعلق المحب بمن يحب، وهل تهزهزه الأشواق إليه كلما لمع على محيا الوجود منه بارق، إذ علامة المحب في ديوان الأشواق أن يهتز ويظهر عليه الشوق والحنين كلما زاره ممن يحب طيف أو لمح من أثره شيئا، بل إن تلك الآثار تكون بلسما على روحه لئلا يقتلها الشوق أو يُفْنيها البعاد، فتأتي الذكرى تمتحن المحبين وتمسح على قلوب المشتاقين وتسكّن من روع الملتاعين، وهو ما يفسر أنه يطلع عند الذكرى من يُفتضح زور حبه لينهى الناس عنها، فالذكرى نور المحبين حقيقة، ونار تكشف الشوائب وتزيل الغلث وتُذهِب الزبد، فلو كان محبا حقيقة لسلّم بحاله ومقاله لأحوال المحبين، ولعلم أن ما بهم من التبريح هو ما يعتلج في صدره من الجوى والشوق، والمحب لا يلام على ما يصدر عنه في حال فورة حبه وغلبة الشوق عليه.
ما الذكرى إلا بحر تُمِدُّه أنهار من الحنين والمحبة والتعلق والذكريات وكيف تكونت الشخصية بكل تفردها وكيف نضجت الروح حتى صارت محمدية ، يسكنها حب المصطفى صلى الله عليه وسلم، وهي تستشعر الخطاب الأزلي لها: {واعلموا أن فيكم رسول الله}، فتنبثق على الألسنة همهمات هي إلهام كما يلهم أهل الجنة التسبيح والتحميد ويلهم أهل الدنيا الأنفاس، همهمات تردد في كل ذكرى:
مولاي صل وسلم دائما أبدا    على حبيبك خير الخلق كلهم

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

واحد × خمسة =

زر الذهاب إلى الأعلى
MCG24

مجانى
عرض