
تجليات السيرة النبوية في الشعر الملحون – الحلقة الثالثة
د. منير البصكري الفيلالي / أسفي
فإلى أي حد تناول شعراء الملحون السيرة النبوية وأبرزوا تجلياتها، وما أهمية حضور هذه السيرة العطرة في الشعر الملحون؟ ثم ما هي أبرز الموضوعات النبوية التي نظم فيها شعراء الملحون والعلامات الروحية والجمالية التي كشفوا عنها في شعرهم، وبأي معنى من المعاني ساهم الشعر الملحون في تجديد التلقي الإيماني للسيرة النبوية وترسيخ قيم الكمال المحمدي في الوجدان الجماعي للمغاربة، على اعتبار أن الملحون رافد أساسي من روافد الذاكرة المغربية، بحكم تجدره في تاريخ الحضارة المغربية، وارتباط مضامينه وأشكاله بطقوس الحياة اليومية في المغرب منذ أكثر من ستة قرون .. إلى جانب كونه إرثا حضاريا مغربيا يعكس ثقافة المغاربة التي تميزهم عن غيرهم من الشعوب، ذلك أنه يختزل مقومات الثقافة المغربية العربية الأمازيغية الأندلسية، ومظاهر حياتها الأصيلة. لقد جعل شاعر الملحون من السيرة النيوية “فنا قائم الكيان، ناضج الصور، مكتمل الخصائص، تناول فيه سيرة الرسول بما فيها من صفات وشمائل ومعجزات، عرض قصصها في قصائد أطلق عليها “المعراج” و”الخلوق” .. وقد يتناولها عرضا في قصائد التوسل والقصائد التي سماها “هول القيامة” وفي قصائد الحنين إلى البقاع المقدسة والشوق لزيارتها .. “.
لا بد إذن أن نعطي نظرة موجزة عن السيرة النبوية وأهميتها قبل أن نتحدث عن حضورها في الشعر الملحون.
فالسيرة النبوية ـ كما نعلم ـ هي من أجل العلوم وأفضلها ، لكونها تتضمن سيرة أعظم رجل وصفه الحق سبحانه بقوله :”وإنك لعلى خلق عظيم”. فقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يمتاز من جمال خلقه وكمال خلقه بما لا يحيط بوصفه بيان، وكان من أثره أن القلوب فاضت بإجلاله .. فالذين عاشروه أحبوه إلى حد الهيام، وما أحبوه كذلك إلا لأن أنصبته من الكمال الذي يعشق عادة لم يرزق بمثلها بشر .. كما كان حبيب الرحمن صلى الله عليه وسلم أشد الناس حياء وإغضاء. فعن أبي سعيد الخدري قال: “كان أشد حياء من العذراء في خدرها، وإذا كره شيئا عرف في وجهه.” فنظره إلى الأرض أطول من نظره إلى السماء .. لا يشافه أحدا بما يكره حياء وكرم نفس. وبذلك كان أحق الناس بقول الفرزدق:
يغضي حياء ويغضى من مهابته فلا يكلم إلا حين يبتسم
فهذه الأخلاق الرفيعة جعلت منه أعدل الناس وأعفهم وأصدقهم وأعظمهم أمانة، كما جعلته أشد الناس تواضعا، يعود المساكين، ويجالس الفقراء، ويجلس في أصحابه كأحدهم. تقول السيدة عائشة رضي الله عنها: “كان يخصف نعله، ويخيط ثوبه، ويعمل بيده كما يعمل أحدكم في بيته، وكان بشرا من البشر يفلى ثوبه ويحلب شاته ويخدم نفسه. ” إلى جانب أنه كان صلى الله عليه وسلم أوفى الناس بالعهود، وأوصلهم للرحم .. وكل هذه الخلال وغيرها، خطوط قصار من مظاهر كماله وعظيم صفاته.
برز عليه الصلاة والسلام في كل المجالات على الإطلاق .. برز في العبادات والمعاملات وغير ذلك. وسيرته صلى الله عليه وسلم هي دراسة حياته وبيان أخلاقه وصفاته وخصائصه ودلائل نبوته وأحوال عصره وأخبار أصحابه، كما أنها تجسيد حي وعملي لأحكام الإسلام وآدابه .. بل هي دراسة لتاريخ وحياة أعظم نبي وأفضل مخلوق وجد على ظهر هذه الأرض منذ آدم عليه السلام إلى يوم القيامة. فهو إمام الأنبياء والرسل. عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “أنا سيد ولد آدم يوم القيامة، وأول من ينشق عنه القبر، وأول شافع، وأول مشفع ..” وهذا الحديث دليل لتفضيله على الخلق كلهم.