ثقافة

مقاربة النسق و السياق في كتاب  “حادي العشاق” للدكتور محمد التهامي الحراق

إعداد : الدكتور عبد العزيز ابايا

مقدمة
يعد كتاب “حادي العشاق : اقترابات من تجربة شيخ المديح و السماع عبد اللطيف بنمنصور ” لحظة معرفية مهمة في التعريف بجانب مهم من جوانب الحضارة المغربية الأصيلة، إنه الاهتمام بالإنسان نفسه، حيث يعتبر هذا المؤلف تذكرا من المؤلف و تذكيرا للمتلقي بعلَم جمعت فيه صفات الشخصية المغربية الأصيلة بما يعد مثالا بارزا على ما كان عليه علماؤنا و انتلجانسيا مجتمعنا من وسع أفق و إشراقة فكر.
و التعريف بشخصية من عيار الشيخ عبد اللطيف بنمنصور ليس بالأمر المتيسر لعامة الناس، فهو يحتاج إلى عدة مؤهلات، أولها : المعرفة الشخصية الواعية و الناقدة عن طريق المعاشرة و الصحبة، و ثانيها : الدراسة العميقة و المتأنية لتراث الرجل و إبداعاته، و ثالثها : القدرة على البيان و التعبير و امتلاك ثروة لغوية ذات بعد تواصلي متميز.
و الحقيقة أن الدكتور محمد التهامي الحراق قد امتلك كل تلك الأدوات و زاد عليها أمانة التبليغ و دقة النشر و بديع الاعتراف بالجميل، فكان الدافع جميلا و الرغبة ملحة في مؤلف يعتبر نسيجا وحده، نادر المثال في بابه، متميزا في منواله، جنح فيه مؤلفه إلى سرادقات الوفاء فتضلع من ماءها مدادا انكتب له به ما انكتب من جميل عبارة و شرف معنى و بهاء إصدار؛ و مما زاده جمالية ذلك التقديم البديع للدكتور العميد سيدي عباس الجراري الذي لم يخف إعجابه بالكاتب عندما قال : … و كأني بالمؤلف لعميق تجاوبه مع معلمه غدا مفعما بشحنة عرفانية انفعالية تمس كل من يتاح له ذلك الاقتراب.”
فأراد الله لهذا المؤلف أن يتحدث فيه عميدان للثقافة و الحضارة المغربية، عميد الأدب المغربي عباس الجراري من خلال المقدمة، و عميد المديح و السماع و الموسيقى الأندلسية المرحوم عبد اللطيف بنمنصور من خلال تلميذه الدكتور محمد التهامي الحراق في وحدة روحية خالدة بين المريد و الشيخ ستظل باقية ما دامت الأرواح.
لقد اجتمع في الكتاب ما تفرق في غيره و أضاء جوانب خفية من شخصية لم يكتب عنها لا الكثير و لا القليل إضافة إلى ذوق عال أبان عنه المؤلف في اختيار المواضيع و مقاربة النصوص.
و قد حاولت في مقاربتي لاقترابات الدكتور محمد التهامي الحراق أن أعرف بالسياق الذي ظهر فيه المؤلف و نسقه و بعضا من طرر على المقاربة المنقبية و النقدية التي خصها المؤلف لشخصية المعرف به و لديوانه “نفحات العرف و الذوق”.
“الحادي” وسياقاته
لقد قارب الدكتور محمد التهامي الحراق شخصية الشيخ عبد اللطيف بنمنصور من خلال ثلاث دراسات تتغيى التعريف بمكانة الشيخ و أدواره العلمية و الفنية. تضمنت الدراسة الأولى فحصا لسيرته و أعماله ، و دراسة ثانية جلى فيها بعضا من أسرار ديوان الشيخ بنمنصور الموسوم ب “نفحات العرف و الذوق ” أما الدراسة الثالثة فقد رصد فيها مكامن تميز تجربة الشيخ في التلحين و التنسيق الفني و بخاصة ما يتعلق بميازين الأدراج.
إضافة إلى الدراسات الثلاث ضمن المؤلف الكتاب ملحقا غنيا يضم نماذج من آثار الشيخ بنمنصور تنظيرا و إبداعا و هي :
محاضرة عن “الموسيقى الصوفية”
مقال بعنوان : “الفقيه عواد : الذواق الأصيل”
برنامجين سماعيين فنيين أولهما “نفقة العمل الفاسي المجرد، و ثانيهما : “تنزيه الحذاق في باقة من أشعار الشيخ سيدي محمد الحراق”.
كل ذلك قدم له المؤلف بعتبات جميلة تضمنت إشراقات عرفانية و مفارقات لغوية مدهشة تثير الإعجاب كما التعجب، مما يستوجب وقفات خاصة يسر الله تحقيقها .
يندرج تأليف الدكتور محمد التهامي الحراق ل “حادي العشاق ” في إطار سياقين متعالقين : سياق معرفي موضوعي ، و آخر ذاتي روحاني:
يتعلق السياق المعرفي الموضوعي بالمشروع العلمي الرصين للدكتور محمد التهامي الحراق، وهو تكوين شخصية مسلمة روحانية متخلقة تحتفي بالجمال ومظاهره في الدين والحياة، إنه مشروع يمتح من روحانية الدين وجماليته وكذا من التجارب العرفانية الفريدة لمتصوفي الإسلام، وكذلك من الأفق الحداثي أو ما سماه في مؤلفه في كتابه “المباسطات” بأنوار الحداثة، وأخيرا هو نتاج لشخصية المؤلف نفسه باعتباره ابنا بارّا من أبناء الزاوية المغربية، وهي مرجعية أساسية يقتبس منها الأفكار والتجارب، ويستهدي بها في الدعوة إلى تحقيق أفق روحاني إنسي جمالي، وهي دعوة يكاد يتفرد بها الدكتور محمد التهامي الحراق، على الأقل في محيطنا المغاربي .
إنه سياق الاحتفال بالجمال و تظهير مجاليه المختلفة المنبثة و الثاوية في ديننا الحنيف و في مختلف تمظهرات الحياة عادات و تقاليدَ و موروث شفهي و مكتوب، و قد ظهر اهتمام محمد التهامي الحراق في كتابه السابق ” في الجمالية العرفانية – من أجل أفق إنسي روحاني في الإسلام” بتلك المجالي من خلال تركيزه على مجليين رئيسيين :
المجلى الجمالي الشعري : حيث الجمال متلبس بخصوصية التجربة الصوفية نفسها والتي صدر عنها ذلك الشعر، يقول عنها : ” التجربة الصوفية ذهاب وجداني نحو المطلق، إنها سفر في جغرافية المعنى الذوقي، سفر مقامات لا سفر مسافات، أو قل “سلوك معرفة ذوق وتحقيق، لا سلوك مسافة و طريق، إلى سماوات معنى لا مغنى حد عبارة ابن العربي”. و كما تلبس الجمال بالتجربة الصوفية، تلبس أيضا بما تنتج عنه من ذوق – ما دام علم القوم علم أذواق لا أوراق – و هو – أي الذوق – يعد المفتاح الوحيد الذي يمكن من استكناه ما بطن من درر في بحار العلوم العرفانية التي تركها كبار القوم، و قد أورد محمد التهامي الحراق نماذج عديدة تؤيد هذه الحقيقة ليخلص إلى ” أن الصوفية يشترطون في الاقتراب القرائي من نصوصهم شرط الذوق، ذلك أن روحانية التجربة الصوفية و فرادتها و ذاتيتها و جوانيتها، تجعل منها تجربة لا تتكرر و لا تنقال، و هو ما يجعل تلك النصوص التي تصدر عن القوم في أحوالهم الوجدية، و خصوصا منها الشعرية، محض ظلال و آثار و صدى …”
المجلى الثاني يرتبط بالمجلى الجمالي الموسيقي: و هنا تحدث الدكتور محمد التهامي الحراق عن ما أسماه بالتربية بالطرب وخاصة عندما أشار إلى تصويف الأنغام، فالسماع المقيد بالنغم يؤكد مؤلفنا “هو في بدء الأمر سماع مطلق للنغم بحد ذاته، أكان صوتا نغميا خاما صادرا عن الطبيعة…. ( ص277)
أما السياق الثاني فهو ذاتي المنشأ، روحاني الطبيعة، يتعلق بالتوريخ لأستاذ المؤلف الشيخ عبد اللطيف بنمنصور ، هذا التوريخ الذي يأتي استجابة لثلاثة مطالب أساسية :
مطلب أخلاقي : من خلال تأسيسه لثقافة الاعتراف كسمة لازمت المريد ( محمد التهامي ) بعد وفاة الشيخ ( عبد اللطيف بنمنصور) بعد أن كانت تتأسس قيد حياته على ثقافة التعرف، و بين “التعرف” الذي تقتضيه علاقة المريد و الشيخ القائمة على بذل العلم من هذا و بذل الأدب من ذاك ؛ و “الاعتراف” القائم على إعادة إنتاج الشيخ و توسيع مجال تلقي علومه يظهر هذا المؤلَف الذي يتجسد فيه الوفاء في أبهى حلله، و من هنا تبرز جمالية الكتاب من خلال سياقه المؤسس على خلق سامي هو الوفاء الذي قال الله عز و جل فيه : ” و أوفوا بالعهد إن العهد كان مسؤولا” و قوله عز وجل : ” و أوفوا الكيل و الميزان بالقسط ، لا نكلف نفسا إلا وسعها، و إذا قلتم فاعدلوا، و لو كان ذا قربى، و بعهد الله أوفوا، ذلكم وصاكم به لعلكم تذكرون”. و هو الخلق الذي امتدحه سيد الأوفياء محمد صلى الله عليه و سلم بقوله : ” من كان بينه و بين قوم عهد فلا يحلن عهدا، و لا يشدنهم حتى يمضي أمره أو ينبذ إليهم على سواء”.
مطلب معرفي : و تقتضيه أمانة التبليغ عن الشيخ و نشر علمه بين الناس، كما يقتضيه تشوف المهتمين و المحبين و تشوقهم إلى مزيد معرفة بهذا العلم الذي لم يأخذ حقه من الاهتمام على الأقل على مستوى المقاربة الأكاديمية.
إن عملا كالذي تجشم صعابه الدكتور محمد التهامي الحراق ليستحق كل التنويه والتقدير، كونه مساهمة في تبئير الاعتزاز بروح الشخصية المغربية الأصيلة وما أنتجت من أعمال فكرية وفنية تتعدى الحدود الوطنية لترتقي إلى الكونية، والشيخ بنمنصور يعد مثالا واضحا عن تلك الشخصية الفذة التي نذرت حياتها لإشاعة الجمال، وكرست أوقاتها لضمان سيرورة ملحمية لموروث فني مغربي أصيل هو فن السماع والمديح والموسيقى الأندلسية.
لم يكن لكاتب هذه السطور مجالسة مباشرة مع الشيخ سيدي عبد اللطيف بنمنصور، غير أن المناسبتين اللتين أتيحتا لي و أنا أطاول الأعناق للنظر إليه في رحاب الزاوية الحراقية بالرباط كانتا كافيتين لتحسس شخصية جمالية تتلحف بدثار من الجلال، فمن كانت له القدرة و النور لرؤية ما وراء الغشاء ( و هو ما لم يكن متاحا لعموم الناس )، فقد فاز بما وراءه من علم و موسوعية و فتح، و لعل مؤلفنا من فرادى الناس الذين كانت لهم تلك النظرة الملهمة التي هي عطاء و اصطفاء قبل كل شيء، فكان الظفر بالمجالسة و المصاحبة و النظرة فالاعتناء، و ما استتبع ذلك من “إذن” يضمن سيرورة سندية مباركة، وما تلك البرامج السماعية الباذخة ، و الاستحضار النصي و النغمي النادر المثال أثناء “النفقة” زيادة على فتوحات الدراسات الأكاديمية المظهرة لإنسانية و كونية الموروث معنى و مغنى إلا بركة من بركات ذلك الإذن الرباني الذي توج علاقة محمد التهامي الحراق بشيخه سيدي عبد اللطيف بنمنصور .
مطلب روحاني : وإذا كان خلق الوفاء بمعناه الأنطولوجي قد تأسس رمزيا في عالم الغيب منذ يوم ” ألست بربكم” و في عالم الشهادة بقوله : ” ألم أعهد إليكم يابني آدم أن لا تعبدوا الشيطان إنه لكم عدو مبين و أن اعبدوني هذا صراط مستقيم” و من خلال مبايعة الرسول صلى الله عليه و سلم على أعمال الطاعة و الثبات على الحق، فإن العهد الذي يجمع بين الدكتور محمد التهامي الحراق و المرحوم عبد اللطيف بنمنصور ميثاق غليظ أبرمت بنوده في عالم روحاني قبل أن يظهر في عالم الحس إنه العهد بين المريد و الشيخ ؛ و لهذا العهد شرعيته و قدسيته الآتية من العهد المنعقد بين الصحابة و سيد الخلق صلى الله عليه و سلم، و الذي انقسم ليشمل فيما بعد مجال الإمامة العظمى و مجال التزكية، و هو ما جعل العارف سيدي إسماعيل بن سودكين و هو تلميذ الشيخ الأكبر ابن عربي يقول : ” المبايَعون ثلاثة، الرسل ، و الشيوخ الورثة، و السلاطين ، و المبايع في هؤلاء الثلاثة على الحقيقة هو الله تعالى، و هؤلاء شهود الله تعالى على بيعة هؤلاء الأتباع و على هؤلاء الثلاثة شروط يجمعها القيام بأمر الله”.
إن رمزية هذا العهد هي التي أملت على الصوفي الكبير أحمد بن عجيبة الحسني فأعطانا أفقا جديدا للآية الكريمة : { وَالَّذِينَ هُمْ لأَمانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ } [المؤمنون: 8]، فقال : “ولا سيما عهود الشيوخ أهل التمكين والرسوخ، فمن أخذ عقد الصحبة مع الشيخ الذي هو أهل للتربية فيحذر مِنْ حَلّ العقدة بينه وبينه، فإنَّ ذلك يقطع الإمداد، ويوجب الطرد والبعاد، والالتفات إلى غيره تسويس لبذرة الإرادة، وموجب لقطع الزيادة والإفادة، ثم إن الانجماع على الشيخ، وقطع النظر والالتفات إلى غيره هو سبب للكون – كذلك – مع الله، فبقدر الانقطاع إلى الشيخ يحصل الانقطاع إلى الله، وبقدر ترك الاختيار وسلب الإرادة مع الشيخ يحصل كذلك مع الله، وبقدر الوفاء بعهود شيوخ التربية يحصل الوفاء بعهود حقوق الربوبية. فمن كانت غيبته في الشيخ أقوى، وانحياشه أليه أكثر، وجمعه عليه أدوم، كان كذلك مع ربه، وكذلك التعظيم والأدب، والله يعامل العبد على حسب ذلك.”
و إضافة إلى السياقين الموضوعي و الذاتي اللذين سبقت الإشارة إليهما، يبرز معطى آخر أشار إليه المؤلف و يتمثل في حرص عميد الأدب المغربي الدكتور عباس الجراري على دعوة المؤلف إلى الكتابة عن الشيخ عبد اللطيف بنمنصور و تظهير قيمته و إبراز سجاياه و التعريف بعطاءاته و إبداعاته، و هي الدعوة التي كانت نابعة حسب الدكتور محمد التهامي الحراق من ” العلاقة الخاصة التي كانت تشج عميد الأدب المغربي بشيخ المديح و السماع” حيث كان الدكتور العميد نعم السند و العضد و المشجع.
و من هنا جاءت غائية هذا المؤلف الثمين الي أراده مؤلفه “تلبية نداء مزدوج : نداء داخلي ذاتي إلى الكتابة و التعريف بتجربة الشيخ بنمنصور، ثم تلبية نداء الدكتور عباس الجراري . و النداءان و إن كانا يسعيان إلى الحديث عن شخصية الشيخ بنمنصور فإن غاية أخرى تتبطن ذكر هذه الشخصية بعلاقة مع واقع حال السماع اليوم الذي لم يخف المؤلف قلقه منه، يقول في نص دال : ” و إن المتأمل في واقع فن الذكر و السماع اليوم، و مع أهمية ما عرفه من اجتهاد و اعتناء و عناية و رعاية، و خصوصا مع ثلة من الشباب تلاميذ الشيخ بنمنصور، ليفتقد بقوة “صاحب الكواكب” و أترابه، يفتقد بقوة حرارة حضوره ، و روحانية إنشاده، و عنفوان شخصيته، و جرأة نقده ، و دقة تصليحاته، و حصيف ملاحظاته، و ابتكارية أسلوبه، سواء في الفهم أو التلقين ، في النقل أو التجديد.”

“الحادي” وبعث جديد لأدب المناقب
إذا كان كتاب ال «الحادي” يحيل إلى سياق معين مرتبط بما هو موضوعي معرفي وذاتي روحاني، فإنه يحيل إلى ما هو أبعد من ذلك تاريخيا، وهو ما يرتبط بالنسق المعرفي الذي يتشكل عبر التراكم التاريخي لمنظومة الأفكار والعلامات، فبين النسق والسياق علاقة تفاعل وتدافع، خصوص وعموم، فالنسق متصل بالتشكل عبر التراكم التاريخي لمنظومة الأفكار والعلامات، فيما يتشكل السياق من صيرورة معينة هي نتاج سيرورة النسق بتراكماته المعرفية.
“إنَّ النص الإبداعي يرجع إلى نسق وسياق، وبين النسق والسياق عَلاقةٌ جدلية تفاعلية؛ فالنسق متَّصِل بالتشكل عبر التراكم التاريخي لمنظومة الأفكار والعلامات، والتشكل يحدث خلال سياقات، والسياقات متصلة بأنساق قيمية وثقافية، وإحالة النص مرتبطة بمكونات ومؤثرات يظل المبدع يكابد لكيلا يظل أسيرًا لها.”
الأمر هنا يتعلق بأدب المناقب أو التراجم التي تعتبر المكتبة العربية فيه من أغنى مكتبات العالم ، و الذي حسب “بيير بورديو” يعنى بترجمة أعلام زمن محدود و بلد معين ، أو فن من الفنون، أو نحلة من النحل، أو فئة خاصة من الناس مثل الصلحاء و العباد و الزهاد و المتصوفة و الأولياء و الفقهاء ….إلخ . و تعد كتب التراجم ” من أكثر أنواع الكتابات الأدبية ارتباطا بالتاريخ بل هي نوع آخر من التاريخ إن لم يكن التاريخ نفسه” .
تختص كتب المناقب بترجمة شخص معين من شيوخ الزوايا و أرباب الطوائف الدينية، أو بترجمة أحد مريديهم، أو بترجمة طائفة ككل، خاصة في بلاد المغرب، و هي أنواع :
منها ما اختص بترجمة شخص واحد، و من ذلك مثلا :
كتاب الزهر الباسم في مناقب سيدي قاسم لمحمد بن الطيب القادري( ت 1187)؛
كتاب مرآة المحاسن في أخبار الشيخ أبي المحاسن لمحمد العربي الفاسي ( ت 1052 )؛
و كتاب ” المورد الهني بأخبار الإمام عبد السلام الشريف القادري الحسني لمحمد بن أحمد الفاسي ( ت 1179).
بل هناك من وضع ترجمته بنفسه كما فعل العلامة ابن خلدون (ت808) في كتابه : “التعريف بابن خلدون و رحلته شرقا و غربا” و كصنيع سليمان الحوات (ت1231) في كتابه : ثمرة أنسي في التعريف بنفسي”.
و عن دواعي التأليف في أدب المناقب ذكر الباحثون عددا منها : ” … أن يتباهى برجالات وطنه ككل و من ذلك مثلا عبد الوهاب بنمنصور الذي كان من دواعي تأليفه كتاب أعلام المغرب العربي هو ” الشعور بضرورة رفع الحجب المستورة عن رجال المغرب المغمورين إظهارا لعظمتهم، و تبينا للحظ الذي أسهموا به في السياسة و الحرب و العلم و الأدب و الفن، حتى تهتاج المشاعر النبيلة في نفوس أبنائهم و حفدتهم.”
والحديث عن الشخصية الولوية ضمن أدب التراجم هو نطاق محاط بهالة قدسية و مؤطر بنصوص قرآنية و حديثية استنبط منها المترجمون قديما ما يمكنه أن نسميه بالتأصيل العلمي للمجهود العلمي و الاستقصائي الذي كانوا يقومون به، و هو أمر طبيعي، فكل عمل يجب أن يكون مؤصلا من الناحية الدينية ليكتسب الصبغة الشرعية، و في هذا الإطار نفهم حرص مؤلفي كتب المناقب في المغرب على الاستهلال بمقدمة تأصيلية تتضمن فضل علم التاريخ و تبرز أهمية التأريخ لحياة الشخصيات المسلمة، و من ذلك صنيع ابن المؤقت المراكشي في مؤلفه النفيس “السعادة الأبدية في التعريف بمشاهير الحضرة المراكشية” بقوله : “إن أولى ما انتهضت إليه الهمم العلية ، و عكفت على تحصيل جمعه بكرة و عشية، ما كان في الدارين نافعا، و لمكارم الأخلاق جامعا، و كان من أهم ذلك بإجماع أهل الأذواق العرفانية، التعريف بالمظاهر المحمدية و الاعتناء بمآثرهم السنية و أحوالهم البهية و التخلق بأخلاقهم المرضية و الاجتهاد في تحصيل رتبتهم الزكية، إذ عند ذكرهم تتنزل الرحمات و تزول الغموم و تنال الألطاف الخفيات، و بجاههم تقضى الحاجات و تقال العثرات…رحمة بالأمة و ملاحظة لما في ذلك من الفوائد الجمة، و اغتناما لما ورد في الأثر عن سيد البشر صلى الله عليه و سلم حيث قال : ” من ورخ مومنا فكأنما أحياه، و من قرأ تاريخه فكأنما رآه، و من زاره فقد استوجب رضاه”.
في نفس السياق تابع ابن المؤقت في تعداد الفوائد المحصلة من التعريف بالشخصيات العالمة الصالحة و قسمها إلى فوائد دنيوية و دينية ، يقول عن هذه الأخيرة: ” وأما فوائدها الأخروية فمنها أن العاقل اللبيب إذا تفكر فيها و رأى تقلب الدنيا بأهلها، و تتابع نكباتها إلى أعيان قاطنيها، و أنها سلبت نفوسهم و ذخائرهم، و أعدمت أصاغرهم و أكابرهم، فلم تبق على جليل و لا حقير…زهد فيها و أعرض عنها و أقبل على التزود للآخرة منها…”
و إذا كان في سرده لهذه الفوائد قد أسس للملمح التطهيري كنتيجة حتمية للاهتمام بمناقب الأشخاص، فإنه من جهة الفوائد الدنيوية قد ركز على صفة الخلود الذي يمنحه المترجم للمترجَم له، و قد عبر عن ذلك بقوله : ” فأما فائدتها الدنيوية إن الإنسان لا يخفي أنه يحب البقاء، و يؤثر أن يكون في زمرة الأحياء، فيا ليث شعري أي فرق بين ما رآه أمس أو سمعه، و بين ما رآه في الكتب المتضمنة أخبار الماضين و حوادث المتقدمين، فإذا طالعها فكأنه عاصرهم و إذا علمها فكأنه حاضرهم”
إلى جانب هذه الفوائد أشار ابن المؤقت إلى بعض النتائج الاجتماعية و السياسية التي تساهم في استقرار المجتمعات و الأوطان، يشير إليه في قوله : ” و منها أن الملوك و من إليهم الأمر و النهي، إذا وقفوا على ما فيها من سيرة أهل الجور و العدوان، و رأوها مدونة في الكتب يتناقلها الناس فيرويها خلف عن سلف، و نظروا إلى ما أعقبت من سوء الذكر و قبيح الأحدوثة …استقبحوها و أعرضوا عنها…”
ما يقترحه علينا الدكتور محمد التهامي الحراق في هذا المؤلف نوعا جديدا من كتب المناقب ، فهو لم يؤرخ لشخصية عبد اللطيف بنمنصور بالطريقة التقليدية المعروفة في كتب التراجم بتتبع مسار حياته بغرض رسم صورة واضحة عن شخصيته وتخليد اسمه بين العظماء و حسب ، و لكن حاول أن يستنسخ التجربة و يقطر من رحيقها عسلا مصفى ينفع به المعايشين و من بعدهم، بل و يركز في ذهن المتلقي صورة مشرقة عن الشخصية المغربية الفريدة من نوعها، لذا حاول أن يبرز معالم شخصية الشيخ بنمنصور من خلال :
عبد اللطيف بنمنصور الإنسان : و يظهر فيه المترجم له ذا شخصية عصامية تتسم بالقدرة على صنع الذات و استثمار المواهب الكامنة الشيء الذي ساعده في تفجير ينابيع الخلق والإبداع، كما تظهر إنسانيته متجلية في نفس أبية عفيفة و حسن معاشرة و كرم نادر ووفاء لأصدقائه و خلانه ، و هو إلى جانب ذلك : ” المحتسب لله الصبور عند المحن و الابتلاءات، الجامع بين رهافة الإحساس و قرب الدمعة، مع صولة جلالية خاصة في الحسبة على أصالة الفن و أخلاق الزاوية. أما المؤانسة و المفاكهة و المستملحات الأدبية و المساجلات الشعرية و نوادر الإشارات و النكث البلاغية و الفنية ، و اقتناص البسمات، و خفة الظل ، و رشاقة المعاني و الإلماعات ، فإن الشيخ بنمنصور كان تحفة نادرة و صدفة عزيزة، لا تمل جلساته و إن طالت، و يشتاق إليها الجليس متى فقدت . و الرجل إلى هذا و ذاك، ذو أحوال، يشفق على الفقراء، و يستكين لأهل الجذب و يطلب طمأنينته في مقامات الأولياء، كما يبذل العطايا عن غير استغناء طلبا لصالح الدعاء.”
من بين مظاهر جمالية شخصية الشيخ بنمنصور اتصافه “بالفطنة” ، و هي سمة ذات دلالات دينية وروحانية قوية حيث نسب الرسول صلى الله عليه و سلم الرجل الفطن إلى الإيمان بقوله : “المؤمن كيس فطن” ، و كذا وجه إليها شيوخ التصوف باعتبارها طريقا إلى الحكمة، و من هنا نجد البيت الشعري المتداول :
علم التصوف علم ليس يعرفه *** الا أخو فطنة بالحق معروف
وليس يعرفه من ليس يشهده *** وكيف يشهد ضوء الشمس مكفوف
و قد أشار المؤلف إلى الفطنة السياسية التي كان يتمتع بها الشيخ بنمنصور، حيث أشار إلى وقائع تؤكد ذلك ، منها قوله : ” …ظل الشيخ بنمنصور فطنا ذا حس سياسي يقظ حتى في برامجه الفنية؛ و قد أخبرني أكثر من مرة أنه أثناء إعداده للبرامج المديحية السلطانية في المرحلة الأولى ما بين 1969 و 1973، كان في ذكرى المولد النبوي الشريف، و هو يستحضر القسم الخاص بقصة المولد في “بردة” الإمام البوصيري، يتجنب إنشاد قول البوصيري و هو يصف الخوارق التي صاحبت ولادة المصطفى عليه الصلاة و السلام :
يوم تفرس فيه الفرس أنهم قد أنذروا بحلول البؤس و النقم
و ذلك احتراما للعلاقة الديبلوماسية الوثيقة التي كانت تشج ملك المغرب بشأه إيران آنئذ”.
هذه الواقعة و غيرها مما ذكر الدكتور محمد التهامي الحراق تؤكد ما كان لدى الشيخ بنمنصور من اطلاع واسع على الأحداث العالمية و ربطها الذكي بواقع الأمة .
بنمنصور الملقن : و هنا يؤكد المؤلف أن الأخذ عن الشيخ بنمنصور سواء في الجلسات الخاصة أو أثناء الإعداد للحفلات الرسمية يعد مناسبة تكوينية فريدة متعددة الأبعاد و المناحي لما كان يتمتع به من موسوعية و تنوع المعارف العابرة لمجالات عدة كالتصوف و التاريخ و الأدب و الفن، و لما كان يتمتع به أيضا من خبرة عميقة بالحياة. و قد نتج عن ذلك تجديد فريد في فن السماع تمثل أساسا من خلال:
صناعة معجمية جديدة : تمثلت في مصطلحات خاصة ابتكرها الشيخ بنمنصور من قبيل : افتتاحية، ديباجة، معبر، مخلص، انتقال، قفل، ختم، مثلث، إيقاع محرر، إعداد و تنسيق..
حركات إشارية موازية : تشكل لغة فنية مشفرة بين المسمعين هدفها توحيد غنائهم و إضفاء جمالية خاصة على أدائهم.
و يشكل هذا الأسلوب – الصناعة المعجمية و الحركات الإشارية – حسب الدكتور محمد التهامي الحراق ” أسلوبا تلقينيا متميزا أداة و دلالة، حتى ليكاد يجمع أرباب الفن و أهل الولاعة أن من أخذ عن الشيخ بنمنصور مباشرة و استفاد من هذا الأسلوب في حصصه التكوينية المتميزة ، لا يمكنه أن ينسى المحطات اللحنية و المقومات الأدائية لما تلقاه من “صاحب الكواكب” لأنها تقترن في ذهنه بوصف أو حكاية أو حركة أو معلم يصير حاملا على تذكرها بتفاصيل لا يطولها المحو أو النسيان، و هذا المنهاج من عزيز ما تهتم به الأساليب البيداغوجية المعاصرة في التلقين و التمهير و التأهيل.”

محمد التهامي الحراق مناقبيا
ما كان للدكتور محمد التهامي الحراق أن يقدم شيخه عبد اللطيف بنمنصور بذلك التقديم المباشر و الجاف، فقد أراد أن نتعرف على الشخصية عبر أسلوب جميل و قالب فني هو أشبه بقصيدة نثر تغشى كل أبواب المؤلف، و هكذا نجد النفس البياني ظاهرا من خلال استجلاب صور فنية تستقي من الخيال و العاطفة بقدر ما تستقي من الوقائع و التاريخ، و لعل هذا ما يميز كتابات المؤلف ، فمهما كانت المواضيع المتطرق إليها و منها ذات البعد الفكري و الفلسفي العميق في رؤيته، فتجده وفيا لذلك النمط من الأسلوب الفني البياني المزين بشتى أنواع التراكيب البلاغية و الصور المتخيلة، و هو نمط نادر المثال ، فاستطاع من خلال ذلك التعايش و التساكن أن يجد لنفسه نمطا خاصا و فريدا في الكتابة يمنح القارئ المزاوجة بين متعة اللغة المعبر بها و رصانة الفكرة المعبر عنها، و يكفي أن ندلل على ذلك من خلال نص جميل استهل به محمد التهامي الحراق الدراسة التي خصصها لسيرة و أعمال الشيخ بنمنصور عندما يقول : ” كلما أزف شهر أبريل عبرت المخيلة صور و مشاهد و انقدحت في الدخيلة أحاسيس حنين و آثار ذكريات، صور و مشاهد و أحاسيس و آثار تسلب المهجة جملة واحدة لا شيئا فشيئا، و تلفظ بالذات في بحر لجي من الاستحضار الحزين و هو استحضار كليم للحظات فقدت بهجتها إلى الأبد و صار الخيال الكليل يلاحق نكتها الهاربة بلا طائل يكد في التقاط بعض التفاصيل التي تهمس اللغة بصداها فيما صورها تنأى عن الرصد و تند على القبض مثل ماء ينسرب من كف طفل عطشان أو حلم جميل ليله أبدا لن يتكرر. و عند هذا التأبي تنفجر أسئلة حيرى عن العبور و الموت و المعنى و الروح و السفر بين الأزل و الأبد…
بهذا النفَس يقترب المريد من شيخه محاولا أن يؤكد على الفضاء الروحي الذي نشأ فيه الشيخ بنمنصور و هو فضاء الزاوية، و هو فضاء تتواشج فيه الوظيفتان الروحية و العلمية في تلازم عميق ينطلق من تربية روحية ومعرفية في آن واحد تستهدف المريدَ بما يقوي إيمانه بالله تعالى و يمتعه بجرعات علمية تعزز مناعته ضد التيارات و الأهواء الآتية من الشرق و الغرب، و لا شك أن الشيخ بنمنصور كان ممن تعززت مناعتهم الروحية و العلمية بما يساعد على تفتق الذائقة الأدبية و الفنية لديه بسبب : المعاشرة الطويلة للنصوص الشعرية في المخطوطات و الكنانيش و الدواوين الرائجة آنذاك؛
صحبته للشيوخ و العلماء و أرباب السماع و الآلة الأندلسية.
إن ارتباط الشيخ بنمنصور بالزاوية الحراقية تلميذا و مريدا و شيخا ملقنا فيه إشارة إلى الدور الطلائعي الذي كانت تضطلع به هذه الزاوية في تأطير المجتمع الرباطي و تأهيل أبناءه في مختلف المجالات العلمية و السلوكية، فتجذرها في هذا المجتمع جعلها مؤهلة لأن تتولى دور المنقذ للشباب بعامة و الباحثين عن الحقيقة بخاصة و توجيههم التوجيه اللازم لتبريز نموذج مميز و فريد للشخصية المغربية كان عبد اللطيف من أجمل تجلياتها، ومن هنا حرص الدكتور محمد التهامي الحراق على التأكيد على دور الزاوية الحراقية ذات المشرب الدرقاوي في تربية المترجم له و إعداده علميا و سلوكيا للاضطلاع بمهامه الروحية فيما بعد، و من هنا أيضا حرصه على الإشارة إلى دور المدرسة الدلائية التي تشكل الوجه الفني البارز للطريقة الصوفية الحراقية في تشكيل شخصية الشيخ بنمنصور و كان ممثلها الأكبر في طفولة بنمنصور هو جده لأمه الصوفي الكبير مقدم الطريقة الحراقية بالرباط و جده لأمه عبد السلام اكديرة المتوفى سنة 1943م، وقد كان له تأثير كبير على مترجمنا؛ يقول محمد التهامي الحراق متحدثا عن هذه التجربة و مآلاتها الذوقية : ” …و قد خص المقدم عبد السلام اكديرة سبطه برعاية فائقة، و عناية رائقة، و تربية صوفية صادقة، و هو ما ضمخ طفولة الشيخ عبد اللطيف بنمنصور بالطبوع و الأنغام و الأشعار المديحية و الصوفية، فسرى في أوصاله بهاء الشجو و سحر الطرب، و تسللت إلى عروقه موسيقى القوافي و نشوة الأدب، حيث تخلقت بين ضلوعه موهبة موسيقية و فنية، و تشكلت من روح هذا الوسط الصوفي، ذائقته الفنية و الأدبية، فولع بمدح النبي صلى الله عليه و سلم، و امتزج في دمه حبه و التعلق به عليه السلام، و بآل بيته الأطهار الكرام. كما نما في فؤاده الشغف بالذكر و المذاكرة، و الهيام بقوم الصوفية، بمؤلفاتهم و حكاياتهم و إشاراتهم و أذواقهم و أشعارهم و أحوالهم و مقاماتهم، فكان أن ورث تلك الروح الصوفية، و اكتوى بجمرة السر الحراقي المنحدر إليه من جده سيدي عبد السلام تلميذ الولي الصالح سيدي بنعاشر الحداد ( ت 1326ه/1908م) الآخذ عن العالم الساطع و الموسيقي البارع الحاج محمد بن العربي الدلائي ( ت 1285ه/1869م) التلميذ المباشر لأمير الحذاق و مهذب الأذواق العارف سيدي محمد الحراق ( ت 1261ه/1845م).”
و أمام تعذر حصر المؤلف لعطاءات الشيخ بنمنصور، حاول أن يذكر بعضا من تركة الرجل الإبداعية، مشيرا في هذا الصدد إلى :
مجموع أزجال و تواشيح و أشعار الموسيقى الأندلسية المغربية المعروف ب”الحائك” الذي نشره لأول مرة عام 1977، و يعد حسب الدكتور محمد التهامي الحراق أول نسخة كاملة تنشر متضمنة الخمسة و خمسين ميزانا، زد على ذلك محاولة الشيخ بنمنصور إيعاز الأشعار إلى أصحابها، و تعليقه على بعض الصنعات من حيث المتن الشعري و الوزن الإيقاعي، و كذا السعي إلى التعريف ببعض أعلام الفن المعاصرين، ما جعل هذا المجموع “هدية ثمينة إلى حقل الموسيقى الأندلسية المغربية الذي كان بحاجة إلى العناية و الرعاية و التشذيب بعد أن بدأ يعتريه الشحوب و يطوله الذبول.”
مجهودات الشيخ بنمنصور في مجال المديح و السماع الذي يعد كما يقول المؤلف” مكة الشيخ بدون منازع، إنه سيد أهلها ، و شيخ قومها، و مقدم حيها، و الخبير بشعابها.” وقد اعترف المؤلف أثناء جرد بعض الأعمال الخاصة بهذا القسم تعذر استقصاء أعمال الراحل كلها، و كذا صعوبة التمييز فيها بين فن السماع و فن المديح لأن ذلك يقتضي دراسة معمقة و مفصلة من أجل رصد تمفصلاتها المختلفة في سائر أعماله؛ هكذا انطلق المؤلف في جرد مختلف مجهودات الراحل بنمنصور بدءا من برنامج “الكواكب اليوسفية في الأمداح النبوية ” سنة 1961 إلى غاية إصداره الشعري الإبداعي “نفحات العرف و الذوق في مدح طه سيد الخلق” سنة 2007 الذي قدم له الدكتور عباس الجراري. و هو في أثناء ذلك كله و على طول مسيرته الفنية الغنية ظل يحافظ دوما على شخصيته الفنية الصوفية، و يحرص على الالتزام بأسلوبه المتميز في “النفقة” و “التصرف” و “التنسيق” . و هي مصطلحات سأترك فيها المجال للدكتور محمد التهامي الحراق فهو الأقدر على توضيحها .

محمد التهامي الحراق ناقدا
إلى جانب اهتماماته بالدراسات الدينية و ابتكار مناهج جديدة لمقاربة النصوص التراثية، تنبثق من بين ثنايا هذا الاهتمام شخصية فريدة للدكتور محمد التهامي الحراق هي شخصية الناقد، و المرء لا يعجب من ذلك لأن هذه الشخصية جاءت نتيجة معاشرة طويلة مع الشعر الصوفي و المديحي حيث يعد المؤلف من كبار حفاظه، فكان من الطبيعي أن تتكون لديه ذائقة أدبية تبلورت في شكل مقالات و مؤلفات نذكر منها :
الشعر الصوفي بين خصوصية التجربة و إشكالات القراءة؛
تأملات حول دلالات البهاء في ديوان الشيخ محمد الحراق؛
النزعة الصوفية في ديوان “الخالصيات” .. إضاءات و معالم
مطلتان على الحضور الشعري في التجربة العرفانية الأكبرية؛
نشقات أذواق من ديوان “ترجمان الأشواق”؛
جدلية الحب الحسي و الحب الصوفي في العرفان الأكبري.
و أخيرا محاولة الاقتراب من ديوان الشيخ بنمنصور الذي سماه “نفحات العرف و الذوق في مدح طه سيد الخلق”
و لعل من أحلى ما تتميز به الكتابة النقدية لدى محمد التهامي الحراق أنها مقاربات منفتحة و قابلة للرأي الآخر، و لا تدعي الإحاطة و الكمال كما نجد في بعض الكتابات الأخرى، و لعل ذلك من تأثير شخصية المؤلف الذي يتدثر دائما برداء خفظ الجناح للقارئ و بذل التواضع للمُجالس، و يظهر ذلك من خلال إطلالة على افتتاحية مقاربته لديوان “نفحات العرف و الذوق” للشيخ عبد اللطيف بنمنصور، يقول : ” لا يروم هذا الحديث أبعد من الإقامة في القرب من ديوان “النفحات” . إنه حديث يخاف من كل دعوى قد تحرمه التبلل من “ماء الشعر” و “ماء السر” في هذا الديوان . ذاك ما نبهنا إليه سلطان العاشقين عمر بن الفارض حين قال :
رضوا بالأماني و ابتلوا بحظوظهم و خاضوا بحار الحب دعوى فما ابتلوا
لذا، فإننا نتحلل من كل الأماني أو الحظوظ التي تجعلنا ندعي استيفاء القول أو الإحاطة الكاملة الشاملة بمنابع بهاء الشعر و السر في ديوان “نفحات العرف و الذوق في مدح طه سيد الخلق”
إن التخوف الذي عبر عنه المؤلف هنا و المتمثل في حجب النص عن الناقد بدعاوى منهجية يحيلنا إلى إشكالية المناهج النقدية عموما و التي قد تكون في بعض الأحيان حاجبة للنص فهما و تذوقا خاصة و أن منشئ تلك النصوص يؤكد على أنها “نفحات كانت تهب على خاطره وواردات كانت ترد على روحه فيلتقطها و يدونها مقتديا في ذلك بشعراء التصوف.
و يأتي تخوف محمد التهامي الحراق الذي أشار إليه من طرف خفي أيضا من إشكالية تأويل النص الصوفي بدراسة (الشكل/المتغير) الذي يتميز بسياقات متنوعة مرنة لا تخضع للمرجعية اللغوية (المعجمية) إنما تشكل قاموسها الخاص ومفرداتها وتركز على دور المصطلح (اختزال الجملة الصوفية، أو الحالة الوجدانية) الذي يحيل إلى دلالات مبتكرة ومنفتحة، على عكس محصورية العلاقة بين الكلمة والمعنى في اللغة، أو في الخطاب، التي تنحصر في دلالات ثلاث: الدلالة العقلية، والدلالة الطبيعية والدلالة الوضعية.
أما في التصوف فإن الدلالات (معظمها) دلالة عرفانية أو ما يسمى بمصطلح التصوف (ذوقية) وعليه أنشئ للتصوف لغته الخاصة وشكل له دائرة لغوية تشترك فيها الكلمات وضعاً فقط مستمدة وجودها وشرعيتها من العلاقة التي تربطها باللغة الدينية، لكن بدلالات خاصة إشارية مثلما نجدها في المصطلحات العرفانية التي تشكل فنية الشعر العرفاني لدى الشيخ عبد اللطيف بنمنصور الذي يتولد النص الصوفي لديه بشكل مختلف عما يتولد في النص غير العرفاني .
لقد استعان محمد التهامي الحراق في اقتراباته من ديوان الشيخ بنمنصور بمنهج وصفي إحصائي، و بمنهج تأويلي لدراسة العنوان كعلامة فارقة ضمن العتبات النصية للديوان، كما غاص بنفس المنهج في اقتطاف بعض ملامح رقة الشعر و دقة المعنى من خلال ملمحين اثنين :
سر الإنتساب : و التي يشير فيها الشيخ بنمنصور إلى سلسلة نسبه الصوفي بغاية الاستمداد الروحي و الذوقي و بالتالي الأخذ بتلابيب شرعية المشيخة و التلقين؛
سر الإذن : نظرا لأهميته في الاعتراف بأهلية المتكلم و لأهميته أيضا في إظهار ذلك الاصطفاء الذي حظي به لوراثة السر و صونه.
استنادا إلى ما سبق، و بذكاء نقدي ملحوظ استعان المؤلف بنظرة متكاملة تنظر من سماء الجمال و الذوق الألمعي إلى ديوان الشيخ بنمنصور، حيث حاول ربط معانيه الرقيقة بأصولها المعرفية لتشكيل نسق عرفاني ضمن للمعاني العرفانية المجردة سيرورتها و تجددها أيضا، و من هنا حرص محمد التهامي الحراق على الإفصاح عن تناصات شعر بنمنصور و قد مهد لذلك بقوله : ” إننا إزاء “نفحات” و “واردات” بتوقيع شعري، أي إزاء نصوص تمتزج فيها شعرية الروح بروحانية الشعر، وتتواشح في نسيجها “دقة السر” ب “رقة الشعر” ، و هما وصفان نستمدهما من المرجعية الشعرية الصوفية التي ينهل منها وجد الشيخ بنمنصور، و تصدر عنها “نفحاته”، ذلك أن “إمام المسمعين” أبا الحسن الششتري(668ه)، و الذي نجد أصداء أذواقه و إشاراته و أشعره حاضرة في ديوان “النفحانت…”
يراد بمصطلح التناص “تقاطع النصوص وتداخلها ثم الحوار والتفاعل فيما بينها”. وبذلك فإن التناص هو أسلوب لتشكيل “فضاء النصّ” و”للممارسة النصية” من وجهة نظر جوليا كرستيفا التي تقول بتقاطع نصين أو أكثر داخل النص الواحد.” و من هذا التشكيل الذي ساهم في إعطاء قيمة مضاعفة للشعر الصوفي لدى بنمنصور حرص المؤلف على توصيف ما أسماه “شعرية التناص” بقوله : ” نعني هنا ب”شعرية التناص”تفاعل نصوص ديوان “النفحات” مع الذاكرة الشعرية الثرة للشيخ بنمنصور،و إسهام هذا التفاعل في صياغة شعرية نصوصه و في توسيع طاقتها الجمالية الروحية، لا سيما و أننا نعلم ما امتاز به الشيخ بنمنصور من ذاكرة رحبة، و قدرة استثنائية على استحضار الأشعار الفصيحة و الموشحات و الأزجال…” و في هذا الإطار نراه يقسم التناص إلى نوعين : – تناص الدلالات – و تناص البنيات :
فتناص الدلالات يقصد به حوار المعاني و الدلالات الذي يتسلل إلى نصوص “النفحات” مثل حضور نص البردة في قول بنمنصور :
هبوا نحو المشركين يسقونهم كأس الردى
سل حنينا حقا يقين وسل بدرا و سل أحدا
حيث يتقاطع مع قول البوصيري :
وسل حنينا و سل بدرا و سل أحدا فصول حتف لهم أدهى من الوخم
أما تناص البنيات و الذي وضحه محمد التهامي الحراق بقوله :” أشكال الحوار النصي التي تظهر في التفاعل مع بنيات نصوص سابقة” و هو ما يعرف ب ( المعارضة ) “فقد أسهم بدوره مع تناص الدلالات في “ضخ أبعاد جمالية و روحية رفيعة في ما أطلق عليه المؤلف “رقة الشعر” في ديوان الشيخ بنمنصور.”
هذه بعض ملامح شخصية الناقد لدى الدكتور محمد التهامي الحراق أثناء مقاربته لديوان الشيخ بنمنصور، ولن ندعي في هذه العجالة أن نحيط بكل اقتراباته للديوان و جمالياته و لكنها ملامح فقط نعتبرها تمهيدات لمقاربة أعمق تأخذ بتلابيب المنهج النقدي المتبع بآليات جديدة غير متداولة لدى النقاد ، بخاصة فيما يتعلق بآلية العرفانية كقرينة مجدية لفهم النص الصوفي عموما و تجربة الشيخ بنمنصور تحديدا، و بشكل أخص عندما تحدث عن “شعرية السماع” و ضرورة اتخاذ “السماع المطلق” كمنتج عرفاني صوفي كأرضية لفهم غزليات الشيخ بنمنصور الصوفية.
خاتمة
و بعد، هذه بعض الإلماعات التي عنت لي و أنا أصاحب هذا الكتاب التحفة “حادي العشاق ” حاولت فيها بشكل مختصر أن أقف على شخصية مغربية أصيلة أثرت الواقع العلمي و الثقافي و الفني المغربي بجواهر و درر علمية جمع خيوطها بحبكة و إتقان كما هي عادته الدكتور محمد التهامي الحراق الذي كان مبدعا كشيخه في اقتناص تلك الدرر و بسطها للقارئ في هذه حلة قشيبة تظهر تبلور الشخصية المغربية العالمة الفنانة و هو نسيج من العلماء نادر المثال يجمعون بين العلم و الاهتمام بالفن إما تذوقا أو ممارسة في تواشج عجيب و متماهي، و يكفي هنا أن نذكر أمثال :
العالم و الشيخ و العازف و المطرب عبد الحق الجابري الذي كان يعزف بحضور شيخ الجماعة بفاس العلامة حمدون بلحاج، و الكلام عنه يطول حتى قال عنه سيدي العربي بن السايح ” إنه يحرك الجماد و تهتز له النفوس الكثيفة”
سيدي أحمد التيجاني الذي كان من المحبين في السماع معنى و مغنى حتى أنه كان يأمر الجابري أن يغني بحضرته خلال ليال تسع متتابعة في رمضان…
أحمد بن محمد بن العربي الأندلسي المراكشي من علماء القرن الثاني عشر له كتاب ” الأمداح النبوية و ذكر النغمات و الطبوع ؛
محمد العابدين بن أحمد بنسودة له كتاب سماه : استنزال الرحمات بالطبوع و النغمات أو بإنشاد بردة المديح بالنغمات : يحتوي على وصف موسيقى الآلة و تاريخها بالمغرب ألفه سنة 1907 تقريبا.
و إذا كنا في هذا المؤلف قد اكتشفنا أوجه شخصية بنمنصور الإبداعية، فإننا نعزز من نظرتنا إلى مؤلف هذا الكتاب الدكتور محمد التهامي الحراق حيث تتماهى فيه شخصيات عدة :
شخصية المريد الصادق، شخصية المترجم و المؤرخ، شخصية الناقد و المحقق، و أخيرا شخصية الفنان، كل هذا يدل بجلاء على أنه مثقف بنيوي متعدد، و من هنا تبرز جفرية الشيخ بنمنصور الذي قرب إليه التلميذ محمد التهامي الحراق حيث لاحظ فيه :
حسن الأدب مع الشيوخ و كبار السن؛
القدرة على التقاط المعاني الخفية و ارتفاع حسه الروحاني؛
دراسته الأكاديمية التي عضدت التكوين الزاوياتي العرفاني، و التي توجت بالحصول على درجة الدكتوراه من خلال تحقيقه لمخطوطة ” فتح الأنوار في بيان ما يعين على مدح النبي المختار” للشيخ محمد العربي الدلائي الرباطي الذي يعد الآن دستور أهل السماع بالمغرب.
و أخيرا قبل أن أختم أقول بأنه منذ اكتشف الانسان الكتابة و هو يحاول الوقوف في وجه النسيان، مقاوما الموت ، مصارعا الزمن، متجاوزا المحو، مطورا كل الوسائل التي تمكنه من تدوين خبراته و منجزاته ساعيا إلى نقلها من فرد إلى أخر، و من زمن إلى زمن، و من حيز جغرافي إلى. و كتاب الحادي هو نموذج من هذه الوسائل التي تمنح الأشخاص الخلود و البقاء.
و بهذا أمكن القول بأن نظرة الشيخ قد نفذت، و حسن ظنه بتلميذه الذي كافأ المعروف إحسانا و آن لروح المرحوم عبد اللطيف بنمنصور الهائمة بين سرادقات الحب بالبرزخ أن تهنأ و تطمئن و يقر قرارها، لأن ما تمنته هذه الروح قد تحقق و تنزل على أرض الواقع كتابا مرقوما أزال بعض الغربة التي كان يجدها الفقيد في حياته عندما كان يجأر بصرخته المعهودة “ارحموا هذا الغريب”.
و السلام

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

ثمانية عشر − 7 =

زر الذهاب إلى الأعلى
MCG24

مجانى
عرض