
“المتحف الصغير للمغرب الصحراوي” بالداخلة.. ذاكرة حية تبرز أصالة الموروث الثقافي الحساني
لا تكتمل زيارة مدينة الداخلة، لؤلؤة الأقاليم الجنوبية للمملكة، من دون سبر أغوار “المتحف الصغير للمغرب الصحراوي”، الذي يمثل فضاء فريدا وذاكرة حية تساهم بقوة في إبراز أصالة وتجذر الموروث الحضاري والثقافي الحساني بهذه الربوع الغالية من الوطن.
فالزائر لهذه المعلمة الثقافية، المتواجدة بالمكتبة الوسائطية لجهة الداخلة – وادي الذهب، يجد نفسه أمام منشأة متحفية من مستوى عال تعكس تميز المجال الصحراوي بالجهة، وتسلط الضوء على العناصر الأساسية للمكون الحساني، الذي يعتبر أحد روافد الهوية المغربية.
إن القيام بجولة بين أروقة المتحف ومعروضاته العريقة والفواحة بعبق التاريخ يعطي صورة واضحة المعالم عن مدى تفرد وغنى الموروث الحضاري الذي تزخر به الأقاليم الجنوبية للمملكة عموما وجهة الداخلة – وادي الذهب على وجه الخصوص، من حيث نمط عيش الساكنة المحلية بعاداتها وتقاليدها ومختلف أشكال تراثها المادي واللامادي.
كما أولى المتحف اهتماما كبيرا لإبراز مظاهر متنوعة من حضارة الرحل ومعيشهم اليومي وتقاليد الرعي الترحالي، مؤكدا من خلال المعروضات المتوفرة أن فضاء الترحال لم يكن منقطعا عن بقية المجالات، إذ شكلت العلاقات مع السكان المستقرين (في الواحات والمراكز التجارية…) أحد عناوين حياة هذه الفئة من ساكنة الصحراء المغربية.
وعند ولوج بوابة المتحف، الذي تأسس في سنة 2011، يجد الزائر أمامه لافتة كبيرة ترحب به في هذا الفضاء، الذي يمنح غوصا في قلب تاريخ المغرب الصحراوي منذ الأزمنة السحيقة للصحراء الخضراء (عصور ما قبل التاريخ) حتى عهد المدن الحديثة، مرورا بقرون الرخاء في العصر الوسيط، وأزمنة كبار المستكشفين الأوروبيين، وزمن الاستعمار الغاشم.
وكلما تقدم الزائر خطوة أو خطوتين بين أروقة المتحف، إلا وتوقف منبهرا أمام روعة المعروضات والمخطوطات والصور التي تؤرخ لمحطات تاريخية بارزة في الأقاليم الجنوبية للمملكة، تشمل على الخصوص خط البريد الجوي الأسطوري، وإنجازات ومفاخر جيش التحرير، وأمجاد المسيرة الخضراء المظفرة وغيرها من الأحداث والملاحم الوطنية التي شهدتها المنطقة.
فالمتحف الصغير للمغرب الصحراوي هو معرض للجميع، إذ تم الحرص على ضمان الولوج إلى محتوياته بواسطة ملصقات مزدوجة اللغة ذات نصوص مبسطة وصور معبرة، وكذا من خلال إتاحة العرض لفائدة الجمهور المحب للاطلاع أو الخبير بواسطة الشاشات التفاعلية والأجهزة السمعية البصرية، التي تمكن من الحصول على معلومة أشمل وأعمق حول جميع المقومات الحضارية للأقاليم الجنوبية للمملكة.
كما تعتبر هذه المعلمة المتحفية مرآة تعكس بجلاء مختلف مظاهر المعيش اليومي بالمجال الصحراوي، من خلال احتوائها على معروضات تدخل في صلب الثقافة الشعبية الحسانية، وهي الخيمة والشعر والشاي والجمل، وكل ما يميز الأقاليم الجنوبية من جمالية وبعد حضاري أصيل أبدعه إنسان الصحراء عبر الأزمنة والحقب.
وفي هذا الصدد، قالت مديرة المتحف والمكتبة الوسائطية، مغلاها الدليمي، في تصريح لوكالة المغرب العربي للأنباء، إن المتحف الصغير للمغرب الصحراوي هو بمثابة كنز معرفي ثمين وواجهة ثقافية مهمة يتعين دعمها والحفاظ عليها بالنظر إلى دورها الهام في إبراز جمالية وقوة البعد الحضاري في جهة الداخلة – وادي الذهب، وتثمين رصيدها الثقافي والاجتماعي الضاربة جذوره في عمق التاريخ.
وأوضحت السيدة الدليمي أن المتحف يحتوي على الكثير من الأروقة التي تتناول تاريخ وجغرافية الأقاليم الجنوبية للمملكة، وتهتم بمنتوجات الصناعة التقليدية المحلية، ممثلة في الأزياء (الملحفة للنساء والدراعة للرجال) والحلي الصحراوية (“الب غداد” والخواتم والدملج و”خ ياص ر”..)، والألعاب المحلية (السيك مثلا)، والآلات الموسيقية التي تشكل أساس الطرب الحساني (أردين، تيديتيت، طبل، نيفارة..).
وفي هذا الإطار، يضم المتحف نقوشا صخرية وأثرية، من ضمنها رسم تخطيطي لأحد المعالم الجنائزية بمنطقة تيرس، ومعروضات تفيد بأن المغرب الصحراوي ضم عددا من دور السكة زمن المرابطين والموحدين والسعديين وفي بدايات الدولة العلوية، تشهد الدنانير والدراهم على صفاء وجودة المسكوكات.
وأضافت السيدة الدليمي أن المتحف يشتمل كذلك على رواق معلوماتي حديث يضم المحتويات القيمة التي يتوفر عليها كل رواق على حدة، وأشرطة مسجلة تحكي عن المقاومة المغربية في عهد الاستعمار، وكتب إلكترونية تسلط الضوء على نمط عيش السكان البدو في هذه الربوع الغالية من الوطن خلال الأزمنة الماضية، مثل كيفية نصب وإعداد الخيمة وممارسة عدد من الطقوس والعادات المعيشية الأخرى المرتبطة بمجال الصحراء.
وأشارت إلى أن المتحف والمكتبة الوسائطية يشكلان فضاء تثقيفيا وتربويا ملائما للناشئة المحلية، خاصة تلاميذ المؤسسات التعليمية العمومية والخاصة التابعة لجهة الداخلة – وادي الذهب، بالإضافة إلى الزيارات المنتظمة التي دأب عليها عدد من المنخرطين، للاستفادة من الخدمات المتنوعة التي يقدمها المرفقان معا، فضلا عن المقيمين الذين يأتون للمطالعة والنهل من المعارف التي تختزنها المؤلفات والكتب حول كل ما يتعلق بالمجال الصحراوي للمملكة.
كما تحتوي هذه المعلمة على فضاءات متعددة للقراءة (بالنسبة لفئتي الصغار والكبار)، وقاعة للمعالجة، وأخرى مخصصة للمخطوطات واللغات (العربية والإنجليزية والإسبانية والفرنسية)، تحت إشراف أطر مؤهلة تعمل على مساعدة الباحثين وباقي الفئات المستفيدة، فضلا عن رواق مخصص لمجال الإثنوغرافيا.
أما “فضاء المخطوطات”، فيضم بين ثناياه وثائق وكتبا مخطوطة نادرة وذات قيمة تاريخية مهمة، من أبرزها “شرح صحيح البخاري” في علم الحديث النبوي الشريف (سنة 1866)، و”شرح منظومة الشاطبية في القراءات السبع”، و”نظم مختصر الشيخ خليل” لمؤلفه العلامة الشيخ محمد المامي وبخطه (سنة 1831)، ومخطوط قديم في شرح ألفية ابن مالك، وغيرها من الأعمال القيمة التي تبرز الرصيد المعرفي لدى أعلام هذه المنطقة.
وعموما، يطمح المتحف الصغير للمغرب الصحراوي إلى أن يشكل نبراسا ومرجعا بالنسبة للباحثين والمهتمين وعموم الزوار، للتأمل في تراث الأجداد، كما يأمل في أن يضطلع بدوره في النهوض بمجال البحث والدراسة وتحفيز ملكة الخلق والإبداع لدى الناشئة في جهة الداخلة – وادي الذهب.