ثقافة

نحو صياغة مشترك قيمي إنساني من داخل التعدد الثقافي

الدكتور محمد التهامي الحراق

بالإصغاء إلى صوت “الحداثيين” المنطلقين من المرجعية الحقوقية “الكونية” في نقد “مدونة الأسرة” وما تعتمده من أحكام ذات أصول تشريعية دينية؛ نستشف أن نقدهم ينصب على فهوم للدين تاريخية، فيما بعضهم يتهم بسبب ذلك نصوص الدين الوحيانية. تلك حقيقة  ينكرها جم من المتحدثين أيضا باسم “الدين”، مثلما ينكرها جم من المتحدثين باسم “الحداثة”.

فمثلا ما تذهب إليه بعض الأصوات “الحداثية” في التعامل مع “الأحكام الشرعية” لا يميز بين الوحي والتاريخ، بين النصوص المتعالية واجتهادات العلماء في الفهم والتنزيل، وهو عين ما يكرِّسه أيضا كلام عدد من  الدعاة والوعاظ الذين ينطقون باسم السماء دون استيعاب التمييز المذكور، والذي ظل حاضرا عند علمائنا القدماء  وهم يقرون بتعدد المذاهب والاجتهادات، وينوعون في مصادر الاستنباط، ويراعون اختلاف الأعراف والبيئات، ويصوغون ما يعرف ب”العمل” حسب طبيعة النوازل ومقتضيات الواقع وفقه التنزيل؛ بل إنني حين أصغيت إلى وجوه الاعتراض على “الأحكام الدينية” عند بعض الأصوات الناطقة باسم “المرجعية الحداثية والمواثيق الحقوقية وقيم حقوق الإنسان والمبادئ الكونية…”، ألفيت أن عددا كبيرا من تلك الوجوه هي اعتراضات على نوع من الفقه لا على الشريعة، وعلى نوع من الفهم لا على النص الوحياني ( مثل مسائل الردة وحرية الاعتقاد وحرية التفكير  والرق وملك اليمين وتعدد النساء وبعض فروع علم الفرائض…)، مما يعني ضرورة الاجتهاد في تقديم  الدين وفق رؤية مقاصدية، ترسخ  أفقه الكوني الرحموتي الإنسي الذي يشكل روح الشريعة ومغزى رسالة الدين العالمية، ومن ثم النظر إإلى الفقه المتجدد ضمن هذا المنظور.
ليس معنى ذلك إلباس “القيم الغربية المخصوصة” لباس المرجعية الإسلامية؛ وإنما الانطلاق نحو ما هو كوني من داخل مرجعيتنا الإسلامية؛ والإسهام في صياغة مشترك قيمي إنساني من داخل التعدد الثقافي المراعي لاختلاف المرجعيات والمعترف بتنوع الخصوصيات.
خلاصة القول: لابد من ممارسة نقد مزدوج للقراءتين؛ نقد القراءة الحرفية الموروثة للشريعة، مع الإفادة من اجتهادات علمائنا المراعية للتاريخ والصيرورة والتحول والاختلاف من داخل النص وفي ضوئه، وكذا نقد القراءة الحداثوية الملغية للشريعة، والنازعة إلى استنساخ بعض القيم الغربية باسم  كونية زائفة؛ مع الإفادة من روح القوانين والمواثيق الحقوقية الدولية التي تشكل مشتركا حقوقيا وقيميا إنسانيا، ذاك المشترك الذي يحترم وحدة المبادئ الكونية ويراعي تعدد الخصوصيات الثقافية.  من هنا ضرورة الحوار لشق هذا الأفق الثالث المنشود؛ ذاك الذي نعتناه في كتابنا الأخير بأفق “الأنوار التي لا تتزاحم”، أعني أنوار الدين وأنوار الحداثة. إنه مسار عويص وشاق وعسير، لكنه الأفق الأجدى لتقديم نموذج مغربي متميز للإجابة على رهان أن ننتمي بجدارة إلى ديننا وزماننا؛ أي أن نكون مسلمين معاصرين، قادرين على تجديد الانتماء لإيماننا ضمن معقولية الهنا والآن.  ذاك أيضا ما نفهمه مما كان  قد دعاه الخطاب الملكي بجامع القرويبن، بمناسبة تنصيب المجلس الأعلى لمؤسسة محمد السادس للعلماء الأفارقة بفاس بتاريخ 14\06\2016؛ ما كان قد دعاه  ب”الفكر الديني المتنور”.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

20 − ستة عشر =

زر الذهاب إلى الأعلى
MCG24

مجانى
عرض