ثقافة

“بنات الخريف” بين غربة المكان وسطوة الذاكرة.. قراءة في الفضاء الحكائي

الحلقة الثالثة

 بقلم: الباحثة نعيمة غرافي (المملكة المغربية)

“بنات الخريف” هي الرواية الثالثة بعد “أمواج الروح” و”مرايا” للروائي المغربي مصطفى شعبان، صادرة عن “أكورا للنشر والتوزيع” في طبعتها الأولى عام 2022 موزعة على 228 صفحة من الحجم المتوسط في فصلين.

الباحثة نعيمة غرافي
الباحثة نعيمة غرافي

سطوة الذاكرة وترميم الذات :

   سعيا إلى تحقيق توازنها تمارس الشخصيات المغتربة فعل “التداعي” والارتداد إلى أزمنة ماضية؛ زمن الطفولة والصبا، إنها التقنية السردية التي تحيلنا كقراء على وقائع سابقة وعلى لوحات ناطقة من الذكريات تحن لها الشخصية. ولأن رواية “بنات الخريف” رواية شخصيات لا رواية أحداث إذ لا تتمحور حول عقدة نامية باتجاه حل أو نهاية، كما أنه لا يحدث تبدل في وضعها، بل إنها تمارس فعل البوح والمناجاة وتصرخ عاليا من وضع مأزوم لا تملك له بديلا، لأن هاته الشخصيات المغتربة روحيا تنكفئ على ذاتها، على دواخلها وأعماقها وتنزع إلى الهروب من الخوف والقلق، فإن فعل التذكر يصير مركزيا ومولدا لبنية زمنية خاصة، وهذا الفعل الوجداني الداخلي الذي ينفجر من خلال ضاغط خارجي يمثل عزاء للذات المحبطة المحكومة بالحنين ، وتظل الرحلة من الحاضر إلى الماضي رحلة انتكاسية لا تحقق للذات توازنها بقدرما تضاعف من آلامها وتزيد من اغترابها، تقول كنزة “النوم تحجر في عيني، الأحلام الجميلة تهجرني حين يحل الأرق وحين ينعم الليل بجوده، تسافر روحي إلى أجواء الجامعة”ص28، تسترسل في تذكر الأجواء الرفاقية والعلاقات العاطفية والاغاني والأشعار الملتزمة، وأيضا محنة المنحة الجامعية، تسهب في تذكر كل التفاصيل وكأنها تعيش اللحظة بكل ألقها ومتاعبها، ولكنه التعب الجميل “إن متاعب الجامعة تجلب لي فرحا عارما، كلما تهت فيها بالنوم أو باليقظة، تبحر الروح في الذاكرة فتعيش ماضيها حاضرها” ص30

    من زمن الطفولة تتذكر الساردة “كنزة” ما كانت تخوض فيه مع صديقاتها من حديث عن المستقبل     والآفاق المهنية ، عن الحياة الزوجية المرتقبة “كنا ندبج حياتنا بريشة فنان، نحلم بعالم لوحة ربيعية لريف من أرياف الدول السكندنافية” ص 69 صورعن حياة مثالية كانت تملأ مخيلة الصغيرات اللائي تقترن أعمارهن حاضرا بالإكتهال، بالفصل الخريفي دون أن ينفتح في أفقهن عمل أو حياة أسرية… ومن الطريف جدا أن ترتبط الذكريات بدال رمزي؛ هو صندوق الجدة الذي لم يكن به أي شيء غريب، لا ذهب ولا فضة،، كانت به ذكرى وجودها وحنينها، وهو عنوان استمراريتها وذكرى اقترانها بالجد،،، وكانت الجدة تضطلع بدورها بمهمة سرد حكايات الزمن الجميل.. وهكذا فإن ارتداد بنات الخريف ، الممزوج  بالحنين الى الماضي يصير في الكثير من السياقات استحضارا لقيم ذلك الزمان، وتأسيا على فقدانها واندثارها، تقول ياسمينة “كان الحي الجامعي يصنع الإنسان، كانت العلاقة تساوي الالتزام وكان هجر العلاقة خيانة وتلاعبا بمشاعر الآخر، مات زمن الاخلاق، تلاشى زمن الوفاء،، صار ذكرى واغترابا”ص47 ، وبقدر ما ترتد الذاكرة إلى الزاهي من ماضيهن فإنها تنفتح أيضا على المرارة والفقد وفراق الأحبة الذين كان يفترض أن يصيروا أزواجا ولكن البطالة وانسداد الآفاق بددت الأماني وعمقت الجراح، فعن “وليد لحلال”/ لطفي تقول كنزة التي تقاسمت وإياه حلم الارتباط “عشنا علاقة الالتزام وحب الأرواح وانتظرنا أن نعيش هتافات الجسد ليكتمل مشروع حبنا بالزواج ففككت البطالة كل شيء” ص36 وحين تشتغل الذاكرة بتداعيها على أيام الوصال، تصير الأمداح بكل حمولتها الصوفية وقعا موجعا على أوتار القلب “صوت الأمداح يوقف شرودي، تردده والدتي بصوت رخيم، فيه تعبد وحزن، يصل إلى قلبي كشهيق ناي، يتدفق ألما”

كانوا هنا كانوا يا سيدي يا حنيني

وتقول ما كانوا

فين غابوا.. سيدي يا حنيني

راه وحشنا ليكم سيدي يا حنيني

عيني بغات النوم سيدي يا حنيني

والنوم ما جاها    ص 93

   أمثلة كثيرة يوظفها الكاتب مسعفا من خلالها الشخصية على ترميم ذاتها وبناء عالمها الخاص ليصبح الزمن لديها زمنا “ذاتيا” مرتبطا بالتقلبات النفسية والاحساس براهنية اللحظة في تقاطعها مع الماضي البعيد والقريب وفي تداخل الواقع المر بالذكريات، وينمو لدى الشخصية ذلك الرفض للتواصل مع العالم الخارجي لتزداد بالتالي حدة الاغتراب … قد تشرئب الشخصية أحيانا نحو زمن مستقبلي يتشكل من خلال مقاطع استباقية تتمثل في الاشتغال على ما سيحصل كحديث “كنزة” عما سيحصل لو أنها خرجت من شرنقة العنوسة، تعيش ياسمينة هذا الزمن الاستباقي عبر الحلم بالعرس وطقوسه الاحتفالية.

   وإذا كانت غربة الشخصيات داخل الوطن تدفعها إلى الاستعاضة عن الحرمان بالتذكر، فإن تلك التي بالخارج تعيش اغترابا مركبا؛ فهي المرتحلة عن مكان الولادة والمكابدة في مكان آخر أشكالا مختلفة من الاقصاء و التهميش، مما يجعل منسوب الحنين لديها مرتفعا والارتداد إلى فضاء زماني ومكاني آفل أكثر بروزا،  ليصبح النسيج السردي متحركا بين “الهنا” و”الهناك” وبين “الكائن” و”الما كان”، وتمارس الذاكرة سطوتها على “عمي سعدان” أحد رواد المقهى بباريس. إذ كلما هم بأكل الكسكس عند “أمقران” “تغيبه الملعقة المصبوغة بنقطة خضراء، فتذكره بملاعق للا صفية، ترميه في مشهد خروجه من المسجد يوم الجمعة في البلد”ص172 وحتى مفتاح داره المغربية يرافقه في غربته ” يخرجه كلما اغتم وقهرته الظروف، يضعه في كف يده، مواسيا نفسه وممتصا غضبها” ص173 .تمتلك الشخصيات المهاجرة في الرواية إحساسا خاصا بالزمن الذي يتم اختصاره إلى لحظة فاصلة في حياتها بين الهنا والهناك، فيتذكر كل واحد يوم هجرته، والمكان الذي نزل به وأول شخص تحدث إليه و”يهز رأسه بصرخة ميلاد عسيرة تؤرخ لفراق أرض معجون بثقافتها وذكراها ونزول بأرض لا يعرفها”…

   ومن مظاهر هذه الغربة المزدوجة ما يعيشه الطالب “مني” من حيرة بين العودة إلى الوطن أو البقاء في باريس حيث خليلته “لورانس”، ودون أن يحسم هذا الصراع بداخله يتزوج بنت البلد فيما يظل قلبه عالقا بالأجنبية .ولعل أبرز تجل للغربة المكثفة ما نقرأه عن شخصية “بوغفالة” الحامل لتسميات متعددة؛ فهو “جلول” و”جلو” و”بوغفالة”، شخصية مقنعة تعيش حياة موزعة ما بين جلوس دائم بالمقهى وبين سكر وتعدد في العلاقات الغرامية، يشم “جلول” اسم “بديعة” على ذراعه ويتحسس ندوب الحب وجراحاته كلما  أفرط في الشرب، بداخله شروخ وأعطاب تعبرعن فضاعاتها ما أصبح يعيشه بالخارج بعد تجربة حب فاشلة في الوطن غيرت من مفاهيمه للعلاقة، فأصبحت النساء لديه مجرد “وليمة في الفراش”. تنزع هذه الشخصية إلى ملء الفراغ الباطني بتلوناته  في هويته وفي مظهره “دفن ماضيا تعيسا، ينذعر عن ذكراه، يمتعض إذا نودي بجلول، تنزل به غمة جوانية، يبتلع نارها دفعة واحدة ولا تعرف يده كيف تتسلل إلى الفزاعة يداعبها” ص 193 يعوض “بوغفالة” خواءه الروحي بالإسراف في السخاء على رواد المقهى بأداء ثمن مشروباتهم … وهو لم يندمج في المجتمع الفرنسي إلا ظاهريا، يعيش القهر الذي يغلفه بمسايرة الموضة في مداراة لفراغه العاطفي المريع “همه أن يقال عنه إنسان حداثي، يواكب العص، اندمج الرجل على أحسن ما يرام” ص196، يفهم الاندماج بشكل مقلوب وهو كما تقيمه صفاء “شهادة حية على صناعة استبلاد العقليات ص 197، وحين يشن “بوغفالة” الحروب في اتجاهات متعددة وخاصة على صفاء الصافية القلب التي ينعتها بالسذاجة  فلكي يداري ضعفه وعدم قدرته على إيجاد هويته، وفي رفضها الزواج منه يزداد حنقه وحقده عليها. “بوغفالة” شخصية منكسرة، مثخنة بالجراح، طعنه الحب في الوطن وكسرته صلابة الواقع في بلاد الغربة، يعيش حالة توتر، حالة التباس مع الذات ومع المحيط، مقصي في بلده حين بدت حالته غريبة وهو “يتفنكس” بسيارته داخل الزقاق، في الغربة يتعمق احساسه بالتهميش حين ترفض صفاء الاقتران به، ولا يفلح في استعادة بعض من كينونتك إلا بالسكر الطافح ودخوله حالة اللاوعي أو “دار الغلبات” .

   من الملفت أن شخصية “بوغفالة” تصور في الرواية بكثير من الصدق والتدقيق إذ استطاع الكاتب أن يسبر أغوارها ويكشف عن انشطاريتها  واستهاماتها الواعية وغير الواعية لينذر بذلك بمأساوية الوضع وفداحة أوجاع المغتربين الذين تمتزج لديهم هموم الوطن وإخفاقاته بصعوبة الاندماج في واقع جديد ومختلف ثقافيا، فتتبدى حقيقة الانتماء الصعب والمركب إلى فضاءين متناقضين تحكمهما علاقة توتر والتباس، ويظل سؤال الهوية مطاردا لشخصيات الأجيال اللاحقة من المهاجرين فيما يتعاظم احساس الحنين عند الجيل الأول، فيستمرون على إثر عودتهم النهائية إلى البلد في ممارسة نمط العيش نفسه الذي كان قبل الهجرة وبالتصورات والقيم نفسها. عن صعوبة الاندماج مجددا لديهم تقول كنزة ” توقفت البلدة في ذهن كل واحد منهم يوم هجرته، يغيب الرجل بالأعوام والسنين، يعود فيبحث له في البلد عن صورة تشبهه يوم ذهابه” ص92

    أمام مأساوية الوضع بالداخل وبالخارج، والاحساس بالغبن واللانتماء، تلجأ الشخصيات للبحث عن بدائل، عن عزاء يخفف الأوجاع، عن آفاق تنفتح لتكوين أسرة وإيجاد عمل، فترتمي” كنزة” في عالم الشات، وتتفنن “ياسمينة” في نسج أحلامها: “تحدث نفسها عن اسم الزوج ويسافر طيفها ليقطع الحدود بلا تأشيرة” ص46 غير أنهما تصطدمان بواقع المسخ في العالم الافتراضي، ويحضر الزجل والاغنية الشعبية كشكل من أشكال التعبير عن القهر، تتغنى كنزة بإخفاقها في ايجاد زوج في عالم ما أسمته ب”بركة الضفادع “

شافوني ناس بالصنارة

دازوا وقالوا لي مبروك

ضنوني صياد مهارة

وانا لقصيبة في يدي شوك

أيامي يا ناس مشات خسارة

والحب اللي كان ولى مشروك ص 49

  تتوسل شخوص الرواية أمام انتكاستها أيضا بالخرافة والشعوذة، “ياسمينة” تشير عليها “أم كلثوم” بتعليق ملابسها الداخلية على شجرة صفصاف قرب الولي الصالح والدوران حولها سبع مرات…

   بهاته الطرق الغارقة في التيه والعتمة تنفس الشخصيات المحرومة عن نفسها وتشرع في نسج أحلامها التي تنكسر على صخرة الواقع الممسوخ والرغبات المشبوهة لتتعمق ندوبها وتثقل روحها بهموم الذات، وليس اعتباطا انبثاق شخصية “للا الطاووس” من بين خيوط هذا النسيج السردي، فهذه المرأة المتحدثة باستمرار عن الموت تعتبر المعادل الحقيقي لواقع الشخصيات التي تعيش ولا تحيا،،، وتشكل ملفوظاتها عن الموت مظهرا آخر من مظاهر اليأس من الحياة واحباط آمال الشخصيات. تعلق الساردة على هذه المغالاة في استحضار شبح الموت قائلة “صعقت وأنا أسمع للا الطاووس تتحدث عن كفنها، أصبحت أخاف فستاني الأبيض الذي اشتريته لعرس مرتقب، صار لون بياضه يخيفني ويذكرني بكفن الطاووس”. قمة اليأس من الدخول إلى الحياة وغرق الساردة في بحر من الأسئلة الوجودية يحيل القارئ على الواقع الممسوخ الذي تتماهى معه أحلام “صفاء” في غرفتها الباريسية وهي بين نوم ويقظة،  ويغدو التعبير بالجسد لغة منتجة للمعنى في طقس غنائي ملعلع ” هاج الحاضرون، جابوا القاعة رقصا، أطلق حمادي زناد بارودته، انفجرت من بطنها فرقعة قوية، تبعتها الحناجر بصوت واحد: اركز، اركز، اركز” ص143 يصبح الرقص هنا بديلا وتعويضا بدوره عن حالة القمع والفقدان، به ينفجر الجسد بكل مكنوناته، يتحرر من الضغوط، وينخرط في عالم الفرح اللامنتهي  كلما استشعر انفراجا وأشبع رغبة. فهذا “ميمون بوركزة” يقوم من مجلسه صائحا راقصا كلما فاز في لعب الورق: “اركز يا حبيبي اركز وزيد اركز” ص 160 ليصير فعل الركز تثبيتا للذات على الأرض التي تشكل من ذراتها والتي إليها العودة في آخر العمر…

     “بوغوفالة” يؤكد انتماءه وهويته التي تضيع منه في الصحو بين اسم مستعار ومظهر شاذ، يستعيد شيئا من كينونته وهو يمارس الرقص بالطريقة الاحتفالية المائزة للتراث الغنائي البلدي” يتموج يمينا ويسارا على أغاني الراي، يذوب في مقاطعها، يلوح بيده راقصا ويردد: الهدة، الهدة..” ص 203  يؤكد تميزه داخل فضاء يلفظه باستمرار ويغيبه ليس من خلال الرقص فقط ولكن من خلال” وشم الجسد”، لقد وشم جلول على ذراعه اليسرى قلبا يقطعه سيف وبداخل القلب الجريح كتب اسم حبيبته .وتمثل ظاهرة الوشم التي يدمنها عادة المهمشون مجتمعيا  رد فعل تمردي عنيف ضد الذات التي يطالها المحو من طرف قوى ضاغطة مهمشة، هي لغة دالة تحبل برموز تنقش على الجسد بشكل أبدي وكتابة بالدم تسعى إلى أن تحتفظ بالذكرى وتخلد المفقود.

   يصبح الجسد في موضع آخر أداة تعبير عن السخط وعدم الرضى عن أوضاع حياتية مفروضة من قوى سلطوية قاهرة، فهذا “بوعلام” الموسوم بالمجنون يستعمل جسده تنفيسا عن الامتعاض الذي يستشعره تجاه ساسة هذا البلد ومنتخبيه في تلاعبهم بمصائر الناس وضربهم لمبادئ الديموقراطية في العملية الانتخابية وفي تسييرهم للشأن العام؛ يتعرى “ىوعلام” وسط السويقة في نوبة جنون هستيرية ليجسد من خلال جسده معنى الرفض وعدم الخنوع ويستنكر وضعا مأزوما، ورغم استنكار أهل الزقاق لفعله فقد انتهوا إلى حقيقة أن هذا الرجل “حكيم الحي” وليس مجنونا،،، ما مفهوم الجنون وما حدود التماس بينه وبين العقل؟؟ تقول كنزة وهي تضحك “نحن في زمن الغرابة والاستغراب، فيه كل شيء مقلوب، الناطق فيه بالحق انسان غير سوي ومجنون يعيش بعيدا عن الواقع، المجتمع والسلطة تدفعان لضغط متواصل وحين يتولد الانفجار ويتحرر المرء من قبضة ضغوطاتهم، يتكلم بالحكمة وبالواقع، يتهم بالجنون، وإن صبر على القهر واللكمات الموجهة إليه فصبور، فمن هو العاقل ومن هو المجنون؟” ص69

   وتعتبر “كوثر” من أكثر الشخصيات النسائية في الرواية اكتواء بنار العطالة من جهة وبنار الحب من جهة أخرى، تبخر حلمها في أن تصير محامية تدافع عن المظلومين، انتظرت الوفاء بميثاق الحب لكن “رشيد” صدمها فانكفأت على نفسها تسخر من العشق ومن الرجال، كانت في نوبات جنونها تقيم جلسات محاكمة وتنعت الزمن بزمن “الكلاب الضالة المسعورة” وتصرخ عاليا “سيكبر هذا الصمت، يكبر في قلوب المجانين والعوانس والعاطلين، ثم تتفرقع البطيخة دون سابق إنذار، ويسيل ماؤها دما”ص71/72  هكذا تحاكم المجنونة الحكيمة عصرا موبوء وزمنا ممسوخا ويصير” الهذيان عند أبطال بعض الروايات بمثابة لحظة أراد الكتاب من خلالها أن يدلوا بآرائهم في الكثير من القضايا المعقدة والشائكة على لسان شخص مجنون”5 وإن كان من الناحية النفسية ارتباكا وفقدانا للتوازن وانفلاتا من قوة العقل الضابطة ، فإنه يغدو من الناحية الابداعية انزياحا عن القاعدة والنسق وتعبيرا عن صراع محتدم بين المجنون وبين بنية مجتمعية ضاغطة. و قد عبرت “كنزة” عن ذلك قائلة “إنها(كوثر) تتحدث بما يتغلغل في قلوبنا ولا نستطيع الجهر به” ص73،،، وبهذا يبدو منطوق كوثر كحالة مرضية مقصية من محيطها أكثر بلاغة من  منطوق باقي الشخصيات ويمكن اعتبار إعاقتها شكلا من أشكال العبقرية التي يقرنها الفلاسفة وعلماء النفس عادة بالجنون.

   يتأثث فضاء الرواية بمجموعة أخرى من الشخصيات المقصية وينفتح الزقاق خاصة على أصناف من البشر الهائمين المشردين؛ فالمجذوب مثلا يستحضره السرد كشخص يزرع تجليات تغير في الزمان والحال “الله ينجيك من المشتاق الى فاق ومن الكذاب الى تاق ومن الساكت الى دوا ومن الحبيب الى خوا ومن الصداع الى قوا” ص 17و”بنسنس” شخصية زئبقية ترهب وترغب ” يضبب للسامع الفهم في ذهنه” ص18 يحتال ويمارس فعل التكهن كشكل من أشكال التكسب، تمكث هذه الشخصيات بين حدي المعادلة: الرفض الذي يتمظهر في الهذيان والرضى أو الاستكانة التي تجسدها شخصية “عش واها” التي يحيل مدلول لفظها إلى ما يعزي به أهل الفاقة أنفسهم تهوينا من حالة التفقير التي يعتبرونها ابتلاء وعقابا على ذنوب لم يقترفوها، فيفرطون في الانصياع والخضوع لذوي الأمر والنهي . ورغم انصياعية هاته الشخصية إلا أنها تخلق الفرجة في السوق فتكون أكثر طلاقة في غنائها ورقصها، هي شخصية “تتقن الفرجة ولا تجيد التسول” ص16، الفرجة هي البديل الذي يستعاض به عن واقع الفقر والمرض وهناك من يستعيض بالبديل الديني: الرجل السبعيني الذي يسمع أهل الحي بعض الأذكار وعيناه تدفقان دمعا مذكرا إياهم بآخرتهم كبديل عن الدنيا الفانية المتعبة…

  تعدد أشكال الاغتراب والتهميش في رواية “بنات الخريف” من خلال شخصيات متأزمة تتوسل من الحلم والوهم والخرافة والذاكرة سبلا لتجاوز واقع القهر والاستعباد المادي والمعنوي، وتتأثث الفراغات النفسية والمكانية من خلال استحضار الموروث من الأغاني والأمثال والحكايات التي يبرع الكاتب “مصطفى شعبان” في نسج عوالمه الروائية من خلالها، ليغني الخزانة الروائية المغربية بجنس أدبي يمتح من المرجعيات التراثية سعيا إلى تعرية واقع بات قاب قوسين أو أدنى من التلاشي والاندثار القيمي.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

16 − 2 =

زر الذهاب إلى الأعلى
MCG24

مجانى
عرض