الإشراق الصوفي في الشعر الملحون – الحلقة السادسة عشرة

إعداد : الدكتور منير البصكري الفيلالي / أسفي
بمناسبة الطلعة البهية لشهر رمضان المبارك، يسعدني أن أتقاسم مع قراء MCG24 موضوعا في غاية الأهمية، يتعلق بالإشراقات الصوفية في الشعر الملحون، متمنيا لهم جميعا قراءة ماتعة ورمضانا مباركا، أدخله الله علينا باليمن والبركة والتيسير، وتقبل منا الصيام والقيام وصالح الأعمال، وبلغنا جمال لحظاته ونحن في أحسن حال.

الحلقة السادسة عشرة:
  لعل شاعر الملحون وإن لم يفقه تسبيح الكون، كان يشعر بتلاحم وتناغم تسبيحه مع تسبيح كل المخلوقات. ويزداد هذا الإحساس عمقا مع مداومة الفكر حتى يصل إلى قمم روحية سامية، وإلى شعور باللذة الروحية التي لا يشبهها من نعيم هذه الدنيا شيء، ولا تخطر ببال أولئك الذين يمارسون الرياضات الروحية كالبودية والهندية .. ولهذا جاءت هذه الأمثلة التي سقناها قبل قليل معبرة أصدق ما يكون التعبير عن إيمانه الصادق وهو يتفكر في نعم الله وآلائه. ولعل الأساس يكمن في العبور من التأمل في المخلوقات إلى خالقها ، وفي التوحيد الخالص لرب العالمين الذي لا تشوبه شائبة من شرك أو عقيدة فاسدة.
لقد توفق شاعر الملحون المتصوف في أن يرسم صورة جميلة لما يزخر به هذا الكون من مظاهر ربانية، تدل بشكل مطلق على عظمة وجلال الخالق. ومن ثمة، توجه بفكره وقلبه ليتفكر في ملكوت السماوات والارض، ما دام “التفكير عبادة حرة طليقة، لا يحدها ـ فيما عدا التفكر في ذات الله تعالى ـ عائق ولا قيد من مكان أو زمان أو غيب أو شهاد. ” وهو حين كان يجيل النظر، لا يرى حوله إلا دقة الصنع الإلهي، وجمال إبداع الكون، فيزداد خشية على خشية، وتعظيما لربه سبحانه وتعالى “الذي أحسن كل شيء خلقه وبدأ الخلق من طين.”
ومن هذا المنطلق، أضفى شاعر الملحون على تجربته الصوفية نفحة روحانية تذكر بصفاء المتصوفة وتوجههم إلى المثل الأعلى بالإضافة أيضا إلى توظيف معجمه الشعري لطبيعة تجربته الصوفية، إذ يلاحظ كثرة الألفاظ ذات الدلالات الروحية والمعاني الذوقية. فليس غريبا إذن أن يتوافر لشاعر الملحون هذا الحس الصوفي، بعد أن غمره شعور عارم بقوى تضطرم فيه، وتغمره كفيض من النور الباهر. وتأسيسا على ذلك، شعر بإثراء في كيانه الروحي، وتحرر في أفكاره وخواطره، وانطلاقة لطاقات كانت حبيسة في نفسه. وللمتتبع أن يجد مثل هذه المسحة الإيمانية والإشراقة الصوفية في غير قليل من قصائد الملحون. وسنأتي على إدراج بعض النماذج في الحلقة القادمة بحول الله وقوته.