من المسيرة الخضراء إلى اليوم: عبقرية الملوك ووحدة الوطن

سياسة

في تاريخ الأمم تبرز لحظاتٌ تَصوغُ الذاكرةَ الوطنية وتُعيد حشدَ الإرادة السياسية والشعبية معًا. المسيرة الخضراء (نوفمبر 1975) تمثل إحدى تلك اللحظات بالنسبة للمغرب؛ ليست حدثًا رمزيًا فحسب، بل انتقالًا استراتيجياً بين مرحلة الاستعمار والمرحلة الوطنية التي أعادت رسم معالم السيادة. قراءة هذا الحدث تاريخيًا تعني العودة إلى عقل سياسي وهندسة دبلوماسية دفعت بالقضية نحو صيغٍ جديدة من التثبيت السياسي، وفي مقدّمة هذا المشهد يقف جلالة الملك الحسن الثاني بقامة قيادية تميّزت بالحدس السياسي والقدرة على تعبئة الدولة والمجتمع.

1. المسيرة الخضراء: قرار تاريخي وتعبئة شعبية منظّمة

أُعلن عن المسيرة الخضراء في أوائل نوفمبر 1975، ودعا إليها الملك الحسن الثاني كخطوة سلمية كبرى لجسِّ دعم الشعب المغربي لوحدة التراب الوطني. أكثر من 350 ألف مغربي شاركوا في هذا الحشد السلمي الذي حمل رموز الهوية (المصحف، العلم)، وامتدّ ليشكّل علامة لا تُمحى في الذاكرة الوطنية، وقد أدّت هذه المبادرة إلى حصول تبدّلات سياسية فورية على المستوى الإقليمي والدولي. هذه الصورة ليست مجرد حركة احتجاج أو مسيرة؛ بل كانت تعبيرًا مدروسًا عن استراتيجية وطنية ترتكز على تعبئة داخلية متزامنة مع مناورة دبلوماسية محدّدة.

2. عبقريّة الحسن الثاني: الضغط السلمي والتخطيط الدبلوماسي

عبقريّة الحسن الثاني لم تظهر في المبادرة وحدها، بل في قدرة القصر على مزج عدة أدوات: خطابٌ قويٌّ قادر على التعبئة، إدارة أمنية وسياسية للانتقال من خروج الاستعمار إلى احتواء الوضع الميداني، وتوظيف للعلاقات الإقليمية والدولية لإنتاج واقع سياسي جديد. الحسن الثاني أراد أن يجعل من المسيرة فعلًا لا يُقارن بالعنف، وتحوّل إلى أداة ضغط استثنائية دفعت إسبانيا إلى تغيير موقفها ما أدّى لاحقًا إلى اتفاقاتٍ وإعادة ترتيب وضع الإقليم. هذا المزج بين السياسة الرمزية والضغط الموزون هو ما يميّز سياسته في تلك المحطة.

3. علاقة الملك بالشعب: وحدة المصير وثقة لا تُقاس

حين دعا جلالة الملك الحسن الثاني شعبه للمشاركة في المسيرة الخضراء سنة 1975، لم يكن أحد يعلم كيف سيكون ردّ فعل المستعمر الإسباني. لم يكن المشاركون يحملون سوى المصحف والعَلَم، دون سلاحٍ أو حمايةٍ ميدانية، ذاهبين إلى المجهول بإيمانٍ مطلق بعدالة قضيتهم وصدق قيادتهم.
كانت تلك اللحظة اختبارًا نادرًا في التاريخ السياسي الحديث، إذ لم تُبْنَ المشاركة على الخوف أو الإكراه، بل على ثقةٍ جماعية راسخة بين الملك وشعبه.
لقد أعلن الحسن الثاني أن المسيرة ستنجح فقط إن انخرط فيها الشعب، فجاءه الجواب من كل ربوع المملكة: رجالًا ونساءً، شيوخًا وشبابًا، يعلنون الولاء بالفعل قبل القول، والالتحام في الميدان قبل الخطاب.
وهكذا، تحوّلت المسيرة الخضراء من قرارٍ ملكي إلى ملحمة وطنية مشتركة، أثبتت أن العلاقة بين العرش والشعب ليست علاقة سلطة ومحكومين، بل عهد تاريخي متبادل جوهره الثقة والوفاء.
وما أشبه اليوم بالأمس، فالعلاقة التي ربطت الشعب المغربي بملكه الحسن الثاني رحمه الله، هي ذاتها التي تتجدّد مع جلالة الملك محمد السادس نصره الله، في كل محطة وطنية كبرى. نفس الحب، نفس الالتفاف، ونفس الإيمان بأن الملك والشعب جسدٌ واحدٌ له نفس القلب ونفس المصير.
من المسيرة الخضراء إلى مسيرات التنمية والوحدة اليوم، ظلّ هذا الارتباط هو سرّ قوّة المغرب واستمراره.

4. من الإرث إلى الإطار السياسي: المبادرة المغربية للحكم الذاتي (2007)

بعد عقود من التراكم السياسي والدبلوماسي، صاغت الرباط مقترحًا سياسياً عمليًا عام 2007 — خطة حكم ذاتي واسعة للصحراء تحت سيادة المغرب — كخيار تفاوضي يهدف إلى الجمع بين مطالب الإدارة المحلية والشرعية الوطنية. المقترح تميّز بمحاولة وضع حلّ يوفّق بين الاستقرار السياسي والحقوق المحلية، وقدّم شكلًا ملموسًا للحوار بدلاً من الإحالة الدائمة إلى خياراتٍ إشكالية. هذا المقترح لم يكن نُقطةِ نهاية، بل أداة عملية استُخدمت على مدى سنوات في المسار الدبلوماسي للمغرب.

5. محمد السادس: تكملة الاستراتيجية بالتركيز على التنمية والدبلوماسية

حمل عهْدُ جلالة الملك محمد السادس رسالة الاستمرارية في أولوية قضية الصحراء، لكنّه أعاد توجيه الوسائل: إنجازات تنموية ملموسة في البنية التحتية، مشاريع اقتصادية واجتماعية لتحسين مستوى العيش في الأقاليم الجنوبية، مع توسيع للأفق الدبلوماسي عبر شراكات إفريقية ودولية. هذه المواجهة المتوازنة — بين بناء داخلي وتعزيز خارجي — عملت على تحويل الموقف من مجرد مطالبة سياسية إلى مشروع تنموي وشرعي يجعل من الاندماج الفعلي والإطار المؤسسي طريقًا لتثبيت الحل. خطاب جلالة الملك وافتتاح مشاريع ومبادرات مختلفة على مدار سنوات مثّل ترجمة عملية لهذه الرؤية.

6. تتويج دبلوماسي حديث: تحويل المبادرة إلى مرجعية دولية

التحوّل الدولي الأخير، الذي أقرّته جهات دولية وإقليمية بمرجعية مقاربة الحكم الذاتي (والذي شهدته تطورات ملحوظة في مجلس الأمن خلال 2025)، يُقرأ من منظور مغربي على أنه تتويج لمسار طويل بدأ بالمسيرة الخضراء واستمرّ عبر استراتيجيات صبر دبلوماسي وبناءٍ داخلي. هذا التحوّل يعكس قدرة الرباط على إدراج مقترحٍ عملي في نقاش دولي أوسع، عبر بناء تحالفات سياسية واقتصادية ودبلوماسية جعلت من خيار الحكم الذاتي مقاربة قابلة للنقاش والاعتبار على مستوى المجتمع الدولي.

    قراءة المسيرة الخضراء بوصفها «حدثًا» فقط تُخفي أحد أهم الدروس: أنّ القوة الحقيقية في السياسة ليست في الفعل اللحظي وحده، بل في بناء مسار استراتيجي طويل الأمد يجمع التعبئة الشعبية، التخطيط الداخلي، والمناورة الدبلوماسية. الحسن الثاني وضع اللبنة الكبرى عبر خطوةٍ سياسية رمزية ذكية؛ ومحمد السادس أكمل الطريق عبر ترسيخ المكتسبات على الأرض وتقديم بدائل سياسية قابلة للتفاوض. التاريخُ لا يُكتب بمقطوعاتٍ منفصلة، بل بسلسلة قرارات وُرِصِدت عبر أجيال، وهذه هي قراءة خمسين عامًا من العمل السياسي المغربي حول قضية الصحراء.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

ثمانية − 8 =

زر الذهاب إلى الأعلى
MCG24

مجانى
عرض