سياسة

فرنسا، من صراع الهويات إلى الهاوية ..

أحمد بومعيز

لا أعتقد أن أحداث الشغب التي تعرفها أحياء وشوارع أهم مدن فرنسا حالياً، بعد مقتل شاب فرنسي من أصل جزائري رميا بالرصاص من طرف الشرطة، لا أظن، أن هذه الأحداث تعد مفاجأة، أو أنها كانت مستبعدة، نظريا، أو حتى أن مقتل الشاب هو السبب الوحيد والرئيسي فيها. فالوضعية العامة في فرنسا راهنا هي وضعية مهيأة، موضوعيا، وكل الشروط جاهزة لكل أنواع الاحتجاج والمظاهرات والنكسات والتراجعات. والوضع في فرنسا بدا قابلا للانفجار في أي وقت، وهنا لا بد من الإشارة إلى عدد من المؤشرات التي على ضوئها يمكن أن نقرأ الأحداث المتتالية هناك.
أولا، لا يمكن إخراج أحداث الشارع الفرنسي الجارية عن سياق الاحتجاجات بفرنسا منذ 2005 على الأقل، مع التركيز مرحليا على احتجاجات السنوات الأخيرة ” السترات الصفراء” وما تلاها، والاحتجاجات المرتبطة بالقررات الحكومية، وآخرها قرار الرفع من سن التقاعد وما واكبه من عنف وعنف مضاد. وهنا، لا بد أن نشير إلى أن المجتمع الفرنسي حاليا، وخصوصا جيل الشباب بات يعيش مرحلة تحول ومخاض صعب، نتيجة وضعية اجتماعية واقتصادية وسياسية وتربوية معقدة، ومن أبرز مكوناتها وعناصرها، مشكل الهوية أو الهويات المشكلة للمجتمع الفرنسي الحديث، وهو ما بدأ النزاع حوله منذ مدة، وبدأت تجلياته تطفو على سطح الأحداث، وذلك مرتبط أساسا بالسياسة الرسمية للدولة الفرنسية التي لم تحدد فعليا موقفها الفعلي من الهويات والثقافات التي تخترق في تضاد وصراع مكونات المجتمع الفرنسي، والضغط الديمغرافي الذي يلعب لصالح الهويات الهجينة والمقصية، فالسياسة الفرنسة، وإن كانت تصرح نظريا بالديمقراطية والحقوق والعدل وتكافؤ الفرص والتآخي، فهي لا تضع كل الفرنسيين في كفة واحدة، خصوصا الجيل الثالث من أبناء الهجرة الافريقية والمغاربية، الذين باتوا يشكلون ضغطا كبيرا على الدولة والمؤسسات. وتزداد الأزمة وواقع التهميش بسبب الإقصاء الاجتماعي والانتقاء الماثل في النظام التعليمي والتربوي، والميز البين والظاهر بين مختلف الشباب ارتباطا بالهويات والدين والثقافة والعرق، الميز، في الدراسة والتوظيف ومواقع القرار والرعاية الاجتماعية والتأهيل والتأطير..، مقارنة مع من يعتبرون كمواطنين فرنسيين أصليين، وذلك حسب مجالات الاهتمام والنشاط، وأيضا حسب المناطق الجغرافية بفرنسا.
إن تنامي مظاهر العنف، وانخراط الشباب الفرنسي من المهمشين ذوي الهويات المهمشة والغير أوروبية أو غير مسيحية، في تجمعات إرهابية أو عنصرية، هو فقط نتيجة مباشرة للسياسة الفرنسية في شأن التدبير الهوياتي والديني والعرقي لمختلف شرائح المواطنين الفرنسيين الحاملين للجنسبة الفرنسية.
ثانيا، وفي علاقة بالمجال الأول، لا بد من الوقوف على التحول السياسي الذي يعرفه الشارع والمجتمع الفرنسي منذ السنوات العشر الماضية، وبلغ ذروته مع ولاية ماكرون الأخيرة. ففرنسا، وبعد تراجع الأحزاب التقليدية والاشتراكيين، وتنامي تجمعات اليمين المتطرف، وتحالف المؤسسات المالية وأصحاب المصالح الإقتصادية والسوق، جعلت من السياسة والمحطات الانتخابية مجالا لتدبير المجال الاقتصادي و الأزمات الاقتصادية، على حساب الاجتماعي والسياسي في بعده الشامل المرتبط بالأخلاق وبالنظرية وبالتعبئة الاجتماعية والمجتمعية. وهنا نشير إلى أزمة الخطاب والنظرية والنخب التي تعيشها فرنسا، وأحسن مثال لتجسيد هذا الكساد هو شخصية ماكرون ذاته.
ثالثا، وهنا لابد من وضع فرنسا بصفتها دولة عظمى في سياق الظرفية العالمية والاقليمية، فالأكيد أن كل المؤشرات تدل على تردي وضع فرنسا الاعتباري والاستراتيجي داخل أوروبا وخارجها. ومن أهم تجليات هذا التردي والتراجع، نذكر على سبيل المثال لا الحصر، التخبط الذي تعرفه السياسة الخارجية في إفريقيا وفقدانها لمجالها التقليدي في دول الساحل وجنوب الصحراء، حتى أنها أصبحت هي ذاتها عبئا على دول المنطقة. وكذا ارتباك تدبير علاقاتها مع دول الضفة الجنوبية للمتوسط، وخصوصا مع المغرب والجزائر والحسم الصريح في موقفها من الصحراء المغربية. وهي بذلك تفقد تدريجيا حليفا استراتيجيا قويا في المنطقة وهو المغرب رغم ما تلاحظه هي نفسها، من اكتساح للدبلوماسية المغربية وحسمها لعدة نزاعات لصالحها، وآخرها إسبانيا وألمانيا. في المقابل، تحاول فرنسا التقرب من الجزائر التي تعتبر طرفا في النزاع، وفي عدم استقرار المنطقة، أكثر منها طرفا في بناء استراتيجية إقليمية، ضمنها فرنسا كما كانت تحاول أو تتمنى.
وعلى سبيل الختم، فلابد من الإشارة إلى أن أحداث شوارع فرنسا ستتوقف رغم الضحايا وكل التجاوزات، ستتوفق مؤقتا إلى حين شرارة أخرى لتعود الاحتجاجات والعنف من جديد، وهكذا دواليك إلى أن تجد فرنسا مدخلا جديدا، وميكانيزمات بديلة لمقارباتها السياسية ، للأمن وللوضع الاجتماعي وللتدبير المنصف والعادل لمعادلة الهويات المشكلة للمجتمع الفرنسي. أو … أو، إلى حين وصول الأحزاب الوطنية المتطرفة إلى الإيليزي، لتبدأ آنذاك أزمات أخرى وعنف آخر، في فرنسا أخرى..
وأخيرا وفي إطار الشك والتساؤل المشروع، فهل فرنسا، وبعد هذا التردي الذي تعيشه، هل يجب أو يمكن، فعلا وحاليا، الرهان الاستراتيجي عليها.. كدولة وكحليف …؟؟!!

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

17 − سبعة =

زر الذهاب إلى الأعلى
MCG24

مجانى
عرض