ثقافة

في النقْدِ المَعنَوِي للاسترقاقِ الرَّقمِي…

الدكتور محمد التهامي الحراق

لا مراء أن انفجار الثورة الرقمية، بمظاهرها المتنوعة وآفاقها اللامحدودة الواعدة بالمفاجآت وتخطِّي المستحيلات، قد أدخل العالم في تحولات أنطولوجية جدرية كبرى غير مسبوقة، مازال الوعي المحايثُ غير قادر على استيعاب كل مناحيها وأبعادها ورهاناتها. فقد غيرت هذه الثورة من إدراكنا لمفاهيم “الزمان” و”المكان” (فصل الزمان عن المكان)، و”الحدث” (اضطراب التمييز فيه بين الواقعي والافتراضي، بين الحدث في ذاته وبين صناعة الحدث، بين الحدث الأصل والأحداث المتناسلة، بين الأفعال وردود الأفعال…)، مثلما أربكت تمثلنا لمفهوم “الحقيقة”؛ بل ولمفهوم “الإنسان” في حد ذاته، حتى صرنا إزاء نوع من “كوجيتو” رقمِي لسان حالهِ: “أنا أتصل رقميا إذن أنا موجود”.

وإذا كانت هذه الثورة قد حسَّنَت من نمط العيشِ الماديّ للإنسانِ المعاصر بما لا يمكنُ إنكارهُ، فإن آثارهَا في إذكاءِ أزمةِ المعنى؛ أي آثارَها القيمية والأخلاقية والروحية، في حاجة إلى اقتراب نقدي صارم، وهو ما ترومُ الإسهامَ فيهِ هذهِ المباسطةُ؛ ذلك أن أولَ ما يثيرُ في تلكَ الآثار، كما نلاحظ ذلك في مجتمعنا تعيينا، هو أن هذه الثورة الرقميةَ قد فجرت مفهوم “التواصل” نفسِه؛ إذ بقدر ما فتحت الهواتفُ الخلوية الذكيةُ ومواقعُ التواصل الاجتماعي وشبكةُ الأنترنيت وغيرُها آفاق التفاعل على أوسع نطاق لتجعل الناس متشابكين رقميا في مختلِف أنحاء العالم، فإنها قد قطعتهم عن محاضنِهم الطبيعية مثل الأسرة، والصداقة الحيَّة (شبحا وروحا)، والتواصل بالمشافهة والأنفاس وجدلية الجسد والروح…إلخ. لنسجل، مثلا، كيف أن تبادلَ التهاني في الأعياد بما يمثله في مجتمعاتنا التقليدية مِن تثمينٍ لقيمِ صلة الرحم وتجديد الأواصر والعلائق، وتوطيد السلام والتضامن والتعاون بين أفراد المجتمع، مما هو أصيل ومتجدر في ثقافتنا الدينية ومنتوج قيمنا؛ هذا التبادلُ الحيُّ قد أصبح مجرد عباراتٍ مسكوكة ومحبوكة، وجمل مسجعة وموقعة، نتناقلها عبر الرسائل الهاتفية وعلى البريد الإلكتروني دون روح ولا وهج ولا حرارة إحساس؛ ذلك أنها كُتبت من مجهولٍ لمجهولٍ، أو قل كُتبَت لكي يتبناها كلُّ أحدٍ ولا تُنسَبُ لأحَد، فلا أثر فيها لتوقيع شخصي مُفرَد تحمِلُ نَفَسَه المخصوص ليُخاطِب بها نفْسا معينة ويعبِّر بها عن صلة مخصوصةٍ دون غيرها؛ صلةٍ ذاتِ معالمَ مُميَّزةٍ لا تُكرر غيرَها ولا تطابِقُه.

ليس هذا سوى نموذج بسيط لما أفرزتهُ الثورة الرقميةُ من تحولات معنوية كبرى مست حياتنا حين راحت تخترقُ الفرد في “حميميته” والجماعةَ في “هويتها”، بحيث إن ثورة الاتصال هذه تكاد تفكِّكُ الإنسانَ بما هو معنى مجرد قادر على أخذ مسافة من كل أشكال استرقاقه واستتباعه. لذلك يتحدث البعض اليوم عن “عبودية رقمية” أو عن “ديانة رقمية” لها طقوسُها وأعرافُها ومجالُها وعلاماتُها، فيما يتحدثُ آخرون عن “استعمارية رقمية” تمارسُها بتوحشٍ المؤسساتُ الرأسمالية العالمية الكبرى لتعصف بكل روحانية أو أخلاقية أو إنسانية في سبيل تغذيةِ جشعها اللانهائي للربح، وتعميم الثقافة الاستهلاكية التي أساسُها التسطيحُ وبيعُ الأوهام ودغدغةُ العواطفِ وصناعةُ الأحلام، في أكبر عملية تجريف للإنسان تعرفها الإنسانية.

لنتأمل هنا، ولو بوجازة، بعض صورِ أدواء هذا “الاسترقاق الرقمي”:

جنون السيلفي: تعني Selfie بالإنجليزية “الصورة الذاتية” أو “الصورة الملتقطة ذاتيا”، ونشيرُ بجنون “السيلفي” إلى تلك الرغبة المحمومة للفردِ في تصوير ورصد كل لحظات معيشهِ وحركاتِ جسدهِ في نسيج اليومي وفضاءاته، وهي رغبةٌ جارفةٌ جامحةٌ بلا مُوجِّهٍ ولا حدودٍ، من شأنها أن تُفقد الإنسان القدرة على أن يحيا هذه اللحظات، لكونه يترصدها في الصورة البرانيةِ بدل أن يعيَها ويعيشها بشكل جواني، لتُغذي فيهِ معنى الحياة. إن هذا السعيَ المجنونَ وراء الصورة الذاتيةِ البرانيةِ هو سعيٌ محموم نحو رصد الشكلاني واللحظي والهارب بدل إنتاج المعنى الجواني القادرِ على توليد طاقة الحياة وقدرة الإبداع ومهارة التجدد الأنطولوجي في الإنسان.

عدم تقبل النقد: وهو من أبرز أدواء الشبكات الاجتماعية، يكتب الفيلسوف الإيطالي أُمبرتو إيكو: “فائدة الثقافةِ هي جعل اللقاءِ المتحاوِرينَ الناقدين ممكناً، الذين يجرؤون على أن يقولوا لكَ إنك مخطئ، في حين أنه على الشبكةِ، إما أن يشاطرَ المرءُ جنونَهُ الخاصّ، وإما أن يهاجم، ولكن لا أحَدَ يقبلُ النقدَ، في حين أن جوهرَ الثقافةِ هو النقاش الحقيقي”.

مشكلتا التصفية والسرعة: ويتعلقُ الأمر بداء انعدام تصفية المعطيات والمعلومات واختلاط الصحيح بالزائف والواقعي بالمختَلَق والخبَرِ بالإشاعةِ، ثم بِداءِ السرعةِ في ردود الفعلِ، والتي قد تُبْنى على معطياتٍ زائفةٍ مثلما قد تَصدرُ بعيدا عن كلِّ تأنٍّ أو تبيُّنٍ أو حِلْمٍ مما يسهمُ في إفسادِ العلاقات. يكتبُ إيكو:” القارئ العادي عندما يشتري هذهِ الصحيفةَ أو تلكَ أو كتاباً من إصدارِ هذا الناشرِ أو ذاكَ، يعرِفُ إلى أية عائلةٍ فكريةٍ ينتمي، وأية ضماناتٍ يقدِّمُها. على الشبَكَةِ لسنا بواردِ هذا بعدُ. التصفيةُ هي المُشكلة. ثم هناكَ السرعةُ: إذا تلقيتُ رسالةً غير سارة على البريدِ، فسوفَ أقلّب أفكاري طوال الليلةِ، ثم في اليوم التالي أرسِلُ ردًّا لبِقًا بعض الشيءِ، بينما عن طريقِ البريد الإلكتروني يكون على الفورِ قولُ: عليك اللعنة…السرعةُ تفسِدُ العلاقاتِ، وتنتِجُ ردودَ فعلٍ عنيفةٍ على الفور. السرعةُ تسمحُ بتسجيلِ الأفكارِ اللاواعيةِ، في حين أن الأنا العليا تمارس عادة بعض السيطرة”.

أوهام الشهرة: ونشيرُ بذلكَ إلى داءِ السعي المجنون لاسترضاء الناسِ واكتساب جمهور ومُعجَبين، بحيثُ تجد المرء ينشغل بأثر الفعل وامتداده وتأثيراته وظلاله، من خلال الهوسِ بعدد الإعجابات والمشاطرات والتعليقات، بدل أن ينشغل بالإبداع في الفعلِ ذاته. وهذا ما أنتج أعمالا معرفية وأدبية وفنية تطبعها السرعة والسطحية والشعبويةُ وهاجس الجماهيرية بدل هاجس اكتشافِ المجهول وتوسيع مدارك الإنسان العقلية والروحية والإبداعية. وقد دخلت على هذا المنحى عدة “شركات” تجارية دورها بيع “اللايكات”، والتلاعب بنسبِ عددِ المُعجبين.

نهم الربح: وهو أبرز أثرٍ للثقافة الاستهلاكية الشرسة للرأسمالية المتوحشة، فمعلومٌ أنها ثقافةٌ ترتهن بالسوق وتقدِّس الربح، دونما أي اعتبار إنساني أو روحاني أو أخلاقي، من هنا استمراؤها المتاجرةَ في كل شيء؛ في السلاح والمخدرات والجنس والخرافات وأسرار الأفراد والجماعات والفضائح بل والبشر؛ مقابل السعي لإرضاء هذا النهم المَرضي بالربح الذي لا حدود له. وهذه الثقافةُ تكادُ تستولي على الاستعمال الرقمي، ليس فقط في الإعلانات والإشهارات..، بل في توسل الأفراد والمجموعات بمختلف الطرائق والتقنيات وأشكال الإثارة التي من شأنها توسيع دائرة المتابعة الجالبة للربح، وذلك في معزل عن كل وازع أخلاقي أو قيمي.

 

هذه المظاهر من أدواء “الاسترقاق الرقمي”، التي استحضرناها على سبيل التمثيل فحسب، ذاتُ نتائج وخيمة، أبرزها الإسهامُ في إفقار الإنسانية من إنسانيتها، والتطبيع مع ما يخالِفُ الطبيعةَ والفطرة البشرية. ويكفي لبيان هذه النتيجة، أن أستحضر مشهدا “فايسبوكيا” قاسيا؛ مشهد ذاك المُجرِم الذي ذبح ضحيته في الشارع العام أمام الناس، وبدل أن يبادر الناس للتدخل أو إخبار الشرطة، وجدنا بعضهم يحمل هاتفه الذكي ليصور المشهد، ليس بغاية إقامة الحجة على المجرم، بل بغاية تحقيق سبق إعلامي رقمي مُتَوهَّم في سوق المواقع الإلكترونية و”البوز” (buzz) ، يفعلُ ذلك حتى ولو كان ثمن ذاك السبقِ حياةَ ضحية سُفكت دماؤها هدرا، مُهْدِراً كل قيم الرحمة والشفقة والتعاون في البر وتقديس حرمة دم الإنسان…، فضلا عن إهداره كل اعتبار للقوانين المدنية المُجرِّمة لمثل هذه السلوكات…إلخ.

ثم إن من نتائج تلكَ المظاهر، أيضا، تفكيكُ لحمة الجماعة، وفي مقدمتها مؤسسة الأسرة كما أشرنا آنفا، وهذه مسألة بلغت من الخطورة الغاية؛ إذ يفتح هذا التحول بنياتِنا الاجتماعيةَ على تفكيكٍ لم نستوعبْ بعدُ خطرَ تحويلِها إلى أنقاض، دون امتلاك القدرة على إعادة بَنْيَنَتِها في نسيج وليدٍ يحقق ذاتَ الوظائف التي كانت تضطلع بها هذه البنياتُ المُفَكَّكة. أضف إلى النتيجتين السابقتين نتيجة وخيمة ثالثة هي محوُ الذاكرة؛ ذلك أن تَواتُر الصور وتَلاحُق المشاهد وتَسَارُع اللحظات، واللهثَ وراء متابعة المستجدات والأخبارِ العاجلةِ، والشغف اللامحدود بتحيين المعلومات والصور والأخبار التي تتوالى بكثافة وطوفانية، كل ذلكَ يجعلنا إزاءَ فردٍ بلا ذاكرة، ومن ثم نصيرُ نحو تعطيل أليم لملكاتٍ أخرى تشتغل بتفاعل مع الذاكرةِ، أعني أساساً مَلكتي التعقُّل (النقد) والتخيُّل (الإبداع). وهنا نصيرُ إلى نسيانٍ مَرَضَي، تفقد فيه الذاكرةُ موادَها الخام المستعمَلة في التفكير والتخييل، وليس ذاك النسيانَ المبدِع الذي تصبح في الذاكرةُ منتجةً مبدعةً خَلّاقة بما توفرهُ من مواد قابلةٍ لإعادة الإنتاج والذهابِ بها نحو آفاقٍ جديدة غيرِ مرتادة. على أن هذا المحوَ حين يُمارَس بقساوةٍ على ذاكرةٍ جماعية فإنَّ هذه الأخيرة قد تنطوي على نفسها فتتقوقعُ وتتوحَّشُ في رفض آخَرِها مهما كان، مما يوقعنا في تجاذباتٍ عنيفة وحروب هوياتية مدمّرة، تُذكيها تلك الثقافة الاستهلاكية حين تروم تأحيدَ نمطِ الحياةِ وتحنيطَه بما يعصف بالخصوصيات والتمايزات، و يخدمُ القوى الاستهلاكية الكبرى المسيطِرة على سوقِ السياسةِ والإعلام والاقتصاد.

ثمة نتيجة رابعة يمكنُ أيضا الإشارةُ إليها ضمنَ نتائج المظاهر الآنفة من “الاسترقاق الرقمي” المذكور، فقد أدَّى النزوعُ إلى طلب الشهرةِ والتسيُّدِ دون ضابط ولا انضباط وغياب ثقافة النقدِ وانعدامُ التصفيةِ، إلى أن أصبحَ الحديثُ مُستبَاحا من لدن البعض في كل المواضيع والعلوم والفنون والقضايا والمجالات، بعلم أو بغيره؛ حيث أفضى فصلُ الحرية عن المسؤولية لدى الكثيرين إلى نوعٍ من خَلْطِ المراتب، مما جعلنا إزاءَ فوضى في الآراء والاختيارات، وهو أمر شمِل مختلِف المجالات معرفيةً كانت أو سياسية أو اقتصادية أو اجتماعية أو رياضية أو دينية أو فنية…إلخ. ذاك الخلطُ وهذه الفوضى هما ما نبَّه عليه أُمبرتو إيكو وسمَّاه بـ “غزو البلهاء”، وذلك حين قال في مقابلة مع صحيفة “لاستمبا” الإيطالية:”إن أدواتٍ مثل تويتر وفايسبوك، تمنح حقَّ الكلام لفيالق من الحمقى، ممن كانوا يتكلمون في البارات (الحانات) فقط بعد تناولِ كأس من النبيذ، دون أن يتسببوا بأي ضرر للمجتمع، وكان يتم إسكاتُهم فورا، أما الآن فلهم الحق بالكلام مثلهم مثل من يحمل جائزة نوبل، إنه غزو البلهاء”.

وبإجمال، فإن الآثار المعنويةَ، الأخلاقية والقيمية والروحية، الوخيمةَ للاسترقاق الرقمي متعدِّدة، لكنها تظهرُ أساسا في ما تقوم به الاستهلاكيةُ في إطار العولمة التقنية من ابتلاعٍ واسترقاق للإنسان في الوقت الذي توهمُه بالحرية؛ ذلك أن هذه الاستهلاكيةَ توهمُه أنه يعيش في حاضرٍ أزلي يبتلعُه بحيث يجعل منه كائنا بلا ذاكرة، يستزيدُ دوما وينقصُه دوما ذاك الآتي، إشباعُ رغباته النفسية والجسدية لا يكتمل أبدا. إنه يجري نحو هدفٍ مُتوهَّم، وهو في الحقيقة يجري على طريقٍ بلا نهاية ولا اتجاه؛ إذ ما يهم الاستهلاكيةَ العالميةَ هو أن “يجري ويستهلك”، مما يحوله إلى إنسانٍ بلا غاية ولا بوصلة ولا حريّة. هذا هو الإنسانُ في ظل شراسة الاسترقاق الرقمي: “إنسان بلا روح”، إنسانٌ فاقدٌ للمعنى، هو شبح إنسان.

وهنا تبدو الضرورة ملحةً للدعوة إلى ثورة إنسية روحية، يكون من مقاصدها الإسهامُ في إعادةِ تغذية الإنسانِ بالمعنى؛ أي إعادة أنسنةِ وروحنة علاقة الإنسان بالتقنية؛ وذلكَ من أجل طرح أفق آخر للتعامل معها؛ أفقٍ يجعل الإنسان متسيِّدا في الطبيعة لا على حسابها، منشغلا بإنسانيتهِ لا منشغلا عنها بتدميرها، باذلا لاستعمالِ التقنية بشكلٍ يكفلُ لهُ عدمَ هدرِ معناهُ، وتثمينَ حريته لا اغتيالَها…؛ إنها القيم الإنسية الكونية الرحموتية التي ظل الإنسانُ يتوق إليها ويضحي من أجلها، سواء باسم التعالي المفارِق أو المعرفة المحايثة، باسم الروحِ أو العقلِ، باسم “إنسان الكعبة” أو باسم “كعبة الإنسان”.

 

من كتاب “مباسطات في الفكر والذكر” (دار أبي رقراق، الرباط، 2019، الدكتور محمد التهامي الحراق).

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

5 × 2 =

زر الذهاب إلى الأعلى
MCG24

مجانى
عرض