
الذكرى العطرة في منظور شاعر الملحون
إعداد : الدكتور منير البصكري الفيلالي / أسفي
يحتفل المسلمون في مشارق الأرض ومغاربها بذكرى مولد خاتم النبيئين والمرسلين محمد صلى الله عليه وسلم ، المبعوث رحمة للعالمين .
ومعلوم أن المسلمين وهم يحتفلون بمولد النبي الهادي ، يستشعرون جلال الذكرى ، ويحسون بأبلغ الإيمان وأوثقه .. لأن بمولده صلى الله عليه وسلم حلت رحمة الله وبركاته . قال تعالى : ” وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين ” . فقد اصطفاه الله واجتباه ، وأدبه ورباه ، فنشأ صلى الله عليه وسلم كريم الأخلاق ، جم الفضائل ، حلو الشمائل ، لين الطبع ، عذب الحديث ، نقي السيرة ، طاهر السريرة ، عالي الهمة ، صادق العزيمة ، قوي الإرادة ، رحيما كريما ، عفيفا عطوفا ، جليل الخصال ، كريم الفعال . “هو الذي بعث في الأميين رسولا منهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين ، وآخرين منهم لما يلحقوا بهم ، وهو العزيز الحكيم . ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم . ”
واليوم ، ونحن نحيي ذكراه صلى الله عليه وسلم ، إنما نحيي ذكره باقتفاء أثره وبالحرص على قرآنه وسنته ، لأنهما تركته التي ورثنا إياها كما في الحديث الشريف عنه . واليوم كذلك ، ونحن نحتفي به ، لنقتدي به صلى الله عليه وسلم ، ونتمسك بشرعه عملا بقوله تعالى : ” لقد كان لكم في رسول الله إسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر وذكر الله كثيرا . ”
كيف لا ، وميلاد نبي الرحمة وسيد الأنام محمد بن عبد الله بشيرا بفجر جديد يطل على الوجود ، ومشرق للخير والبركة على الإنسانية جمعاء . فقد كانت حياته صلى الله عليه وسلم منذ ولد إلى أن بعثه الله رحمة للعالمين ، حياة حافلة بالخوارق العجيبة التي تدل عليه وتلفت الأنظار إليه ، وقد عرف الناس سرها بعد البعثة النبوية ، إذ أخذوا يسترجعون الذكريات عنها ويدركون أنها معجزات أراد الله بها أن تتهيأ العقول لقبول دعوة الإسلام حينما ينادي بها محمد بن عبد الله صلوات الله وسلامه عليه بعد أن بلغ أشده وبلغ أربعين سنة .
فما أجدرنا ونحن نحتفل بهذه الذكرى النبوية الشريفة ، أن نطالع تلكم البشائر المضيئة لنزداد إيمانا ويقينا ، ونتخذ من سيرته العطرة ، الزاد النافع الذي يعيننا على أعباء الحياة ويصل بنا إلى شاطئ الأمن والنجاة .
تأسيسا على ما سبق ، ترتبط هذه المناسبة الدينية الجليلة عند شعراء الملحون بنظم عدد من القصائد التي تؤكد مدى محبتهم للرسول صلى الله عليه وسلم ، وتشبثهم بسنته .
يقول الحاج محمد بن علي الدمناتي الأسفي عن مولده صلى الله عليه وسلم :
ليلة مولود سيدنا نظرت الاسرار أم قالت قول تم بغير انكـــــــــــور
شافت ملاك قال في النوم بالجهار محمد كــان زاد سمية المبشـــــور
نزلو الملاك كيف قالت على الحبيب بالطاس مع البريق غسلوه بترتاب
طاف الجنة وفاز بكمال التقريــــب ودخل به البحور وارجع دون عتاب
ويصيب أمه بدون ريبة افكرها بالفراق غــــــاب
انظرت عينها الحبيبـــة طابت والاكوان به طاب
وجده نال كل طيبـــــــة ضم أحمد كوكب الهداب
أحمد الجليل ربـــــــــــي مهما نال المراغــــــــب
وفاز ابسير أدبـــــــــــي و اوفاه بشين طالــــــب وكفل طــه العربـــــــي منحــــه بفرض واجــبغرت بحرة
ومن الفرس اطفات النار ألف اسنا شاعلة وترمي كــل شــــرور وخبر عبد الصليب سطيح والاحبـار في خلوق المصطفى احمد قرة البصور
انهد إيـوان كســـرى بعد التتبيــــت ربع من بعدهم عشــــــرة اشرفــــــات
ويستمر الشاعر في ذكر النور الساطع لسيدنا محمد وهو ما يزال في بطن والدته آمنة التي ازداد بهاؤها بحمل سيد الأولين والاخرين .. يقول :
في المدينة ضي عياني تم أجل بوشفيعنـــا
تقدير من الغني العاني خالق الاشيات ربنا
ومينة نورها السانـــــي يزداد أبنور سيدنــا
جــــد أحمد تم عـــايــن اسرار بكل معنــــا
وأم دات المحــــاســــن أروات بهـــا الجنة
واصنام أهل الضعاين صادتهــم كل محنة
لقد كان مولد خير البرية الأكرم وما يتصل به من أخبار تحكيها السيرة النبوية العطرة ، مادة خصبة لشحذ قريحة شعراء الملحون في الحواضر المغربية . وتعتبر قصائد المولد من أروع ما جادت به سجية هؤلاء الشعراء ، فتحدثوا عن نشأة النور المحمدي على حد قول شاعر الملحون الأسفي الحاج محمد بن علي الدمناتي الأسفي :
رايد ندكر خلوق مروي على الاسياد اخلوق الهاشمي المبرور الهــــادي
لما راد الجليل الوحيد الجــــــــــــواد يخلق نور الرسول نعم المهتــــادي
من نوره خاد نور شعاعــه وقــــــاد نور الماحي القوت مصباح اتمادي
نور الماحي الماجد أحمد المكي شـافــع العبـــــاد
تم اخضع للجليل وسجــد خمسين ألف اسنا اعداد
وخلق من الحي الاوحـــد العرش وسايـــر الافــراد
نور أحمد كان ساجــــــد لـمــا بــــلــغ السعـــــــادة
كالنجم اسطيع واقـــــــــد نــال اكمــــال السيـــــــادة
وخلق من الواحـــــــــــــد الاكــوان بخــرق عادة
لم ينس شاعر الملحون ذكر أوصاف وشمائل الرسول صلى الله عليه وسلم ، فهو عنده الرسول الممجد وسيد الأنام وتاج الأنبياء ، وشفيع الأمة وقطب الفلاح وسيد الملاح والبدر الوضاح ، والنور الوهاج .. يقول الشاعر :ا
سبحـــان الحـي الدايــم من خلق الممجد سيد جمع الأــــــنام
ود ربـــي بالكرايــــــــم من معجزات الهاشمي اتفجي اظلام
صليوا أعلى أبو القاســم محمد تاج الانبيا اشفيــــع الأنـــــــام
صليوا على قطب الفلاح سيد المـــــــــلاح
طـــه بدر الوضــــــــاح سيد ما ايجيـــــح
وترتيبا على ما سبق ، يظهر أن تخليد الذكرى العطرة لنبي الهدى صلى الله عليه وسلم ، وحب شاعر الملحون للرسول الكريم ، كان صادقا ، حيث أفاض الشاعر في الحديث عنه صلى الله عليه وسلم ومدحه بقصائد رائعة ، تعلوها مسحة روحية المعنى وسمو العاطفة ، بل إنه جعل من مدحه للنبي فنا قائم الكيان ، ناضج الصور ، مكتمل الخصائص . وحديث شاعر الملحون عن سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم هو في الحقيقة ، حديث عن الحضارة الإنسانية في جانبها الإيجابي ، حديث عن صنع أمة وبناء جيل لحمته القرآن ، وسداه أحاديث وسنن رسولنا الكريم ، أو بعبارة أخرى ، إنه استعراض لتاريخ مجيد ، وشرح لبرنامج متكامل لا يعتريه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ، لآنه تنزيل من حكيم مجيد.