من صفات عِبَاد الرَّحْمَنِ
من صفات عِبَاد الرَّحْمَنِ.
(والذين لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الًتي حَرًمَ اللهُ إلاً بِالْحَقً وَلَايَزْنُون )
الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين, وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، إله الأولين والآخرين، وقيوم السماوات والأرضين، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله وخليله وأمينه على وحيه، أرسله إلى الناس كافة بشيرا ونذيرا، وداعيا إلى الله بإذنه وسراجا منيرا، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا إلى يوم الدين، أما بعد : فمن صفات عباد الرحمن، الصفة السادسة وهي قوله تعالى :
“وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَاماً”
فقد روى البخاري في الجامع الصحيح عَنْ عَبْدِ اللَّهِ رضى الله عنه، قَالَ سَأَلْتُ، – أَوْ سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ – صلى الله عليه وسلم, أَيُّ الذَّنْبِ عِنْدَ اللَّهِ أَكْبَرُ، قَالَ « أَنْ تَجْعَلَ لِلَّهِ نِدًّا وَهْوَ خَلَقَكَ » .
قُلْتُ ثُمَّ أَيٌّ قَالَ « ثُمَّ أَنْ تَقْتُلَ وَلَدَكَ خَشْيَةَ أَنْ يَطْعَمَ مَعَكَ .
قُلْتُ ثُمَّ أَيٌّ قَالَ « أَنْ تُزَانِيَ بِحَلِيلَةِ جَارِكَ » .
قَالَ وَنَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ تَصْدِيقًا لِقَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم.
( وَالَّذِينَ لاَ يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلاَ يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ )
أيها الإخوة والأخوات:
إن الله سبحانه وتعالى مدح عباد الرحمن، بأنهم مع صلاحهم واستقامتهم، وتحليهم بالأخلاق الفاضلة، فقد ترفعوا عن كبائر الذنوب والموبقات، فهم (لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ)
فقد طهروا قلوبهم من دنس الشرك ، وترفعوا عن العدوان على النفوس وعلى الأعراض وعلى الأنساب، ثم بيَّن سبحانه عقوبة تلك الأخلاق الفاسدة والمفسدة، فقال: (وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ) فإن من يزني، أو يقتل نفسا بغير حق، (يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَاناً).
هذه الآية العظيمة فيها التحذير من الشرك والقتل والزنا والوعيد لأصحاب هذه الجرائم، بما ذكره الله في قوله: وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا [الفرقان:68]، قال بعض المفسرين: إنه جب في جهنم، وقال آخرون معنى ذلك: أنه إثمً كبيرً عظيمً فسره سبحانه بقوله: يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا [الفرقان:69].
فهذا جزاء من اقترف هذه الجرائم الثلاث، أنه يضاعف له العذاب، ويخلد فيه مهانًا لا مكرمًا، وهذه الجرائم الثلاث مختلفة في المراتب، فجريمة الشرك: هي أعظم الجرائم وأعظم الذنوب وصاحبها مخلد في النار أبد الآباد، لا يخرج من النار أبدًا بإجماع أهل العلم، كما قال الله تعالى في كتابه العظيم: مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَسَاجِدَ اللَّهِ شَاهِدِينَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ أُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ وَفِي النَّارِ هُمْ خَالِدُونَ [التوبة:17]، وقال تعالى: وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [الأنعام:88]، وقال سبحانه:وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ [الزمر:65]، وقال في حقهم: يُرِيدُونَ أَنْ يَخْرُجُوا مِنَ النَّارِ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنْهَا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ [المائدة:37] والآيات في هذا كثيرة.
فالمشرك إذا مات على شركه ولم يتب، فإنه مخلد في النار، والجنة عليه حرام والمغفرة عليه حرام بإجماع المسلمين، قال تعالى: إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ َومَأْوَاهُ النَّارُ [المائدة:72] وقال سبحانه: إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ [النساء:48] فجعل المغفرة حرامًا على المشرك إذا مات على الشرك، أما ما دون الشرك فهو تحت مشيئة الله.
أيها السادة والسيدات:
إن المشرك إذا مات على شركه فهو مخلد في النار أبد الآباد بإجماع أهل العلم، وذلك مثل الذي يعبد الأصنام أو الأحجار أو الأشجار أو الكواكب أو الشمس أو القمر ، أو غير ذلك ممن يدعوه المشركون، وهذا كله من الشرك الأكبر والعياذ بالله، فإذا مات عليه صاحبه صار من أهل النار -والعياذ بالله- والخلود فيها.
أما الجريمة الثانية وهي: القتل، والثالثة وهي الزنا: فهاتان الجريمتان دون الشرك، هما أكبر المعاصي وأخطرها إذا كان من تعاطاهما لم يستحلهما، بل يعلم أنهما محرمتان، ولكن حمله الغضب أو الهوى أو غير ذلك على الإقدام على القتل، وحمله الهوى والشيطان على الزنا وهو يعلم أن القتل بغير حق محرم، وأن الزنا محرم، فأصحاب هاتين الجريمتين متوعدون بالعقوبة المذكورة، إلا أن يعفو الله عنهم، أو يمن عليهم بالتوبة النصوح قبل الموت، ولعظم هاتين الجريمتين وكثرة ما يحصل بهما من الفساد، قرنهما الله بجريمة الشرك في هذه الآية، وتوعد أهل هذه الجرائم الثلاث بمضاعفة العذاب والخلود فيه، تنفيرا منها وتحذيرا للعباد من عواقبها الوخيمة، ودلت النصوص الأخرى من الكتاب والسنة على أن القتل والزنا دون الشرك في حق من لم يستحلهما وأنهما داخلان في قوله تعالى: وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ [النساء:48].
أما من استحلها فهو كافر، حكمه حكم الكفرة في الخلود في العذاب يوم القيامة، نسأل الله العافية والسلامة.
أما من تاب من أهل هذه الجرائم الثلاث، وغيرها توبة نصوحا، فإن الله يغفر له، ويبدل سيئاته حسنات، إذا أتبع التوبة بالإيمان والعمل الصالح، كما قال سبحانه بعدما ذكر هذه الجرائم الثلاث وعقوبة أصحابها: إِلا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا [الفرقان:70] فالله سبحانه يغفر لأهل المعاصي التي دون الشرك إذا شاء ذلك، أو يعذبهم في النار على قدر معاصيهم ثم يخرجهم منها بشفاعة الشفعاء كشفاعة النبي ﷺ وشفاعة الملائكة والأفراط والمؤمنين، ويبقى في النار أقوام من أهل التوحيد لا تنالهم الشفاعة من أحد فيخرجهم الله برحمته، لأنهم ماتوا على التوحيد والإيمان، ولكن لهم أعمال خبيثة ومعاصي دخلوا بها النار، فإذا طهروا منها ومضت المدة التي كتب الله عليهم، أخرجوا من النار برحمة من الله، ويلقون في نهر يقال له: (نهر الحياة) من أنهار الجنة، ينبتون فيه كما تنبت الحبة في حمأ السيل، فإذا تم خلقهم أدخلهم الله الجنة.
وبهذا يعلم أن العاصي كالقاتل والزاني لا يخلد في النار خلود الكفار، بل له خلود خاص على حسب جريمته لا كخلود الكفار، فخلود الشرك خلود دائم ليس له منه محيص، وليس له نهاية كما قال تعالى في سورة البقرة في حق المشركين: كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ [البقرة:167] وقال تعالى في سورة المائدة: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لِيَفْتَدُوا بِهِ مِنْ عَذَابِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَا تُقُبِّلَ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ يُرِيدُونَ أَنْ يَخْرُجُوا مِنَ النَّارِ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنْهَا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ [المائدة:36-37].
خلاصة:
والذين يوحدون الله، ولا يدعون ولا يعبدون إلهًا غيره، ولا يقتلون النفس التي حرَّم الله قتلها إلا بما يحق قتلها به: من كفر بعد إيمان، أو زنى بعد زواج، أو قتل نفس عدوانًا، ولا يزنون، بل يحفظون فروجهم، إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم، ومن يفعل شيئًا من هذه الكبائر يَلْقَ في الآخرة عقابًا. يُضاعَفْ له العذاب يوم القيامة، ويَخْلُدْ فيه ذليلا حقيرًا. (والوعيد بالخلود لمن فعلها كلَّها، أو لمن أشرك بالله). لكن مَن تاب مِن هذه الذنوب توبة نصوحًا وآمن إيمانًا جازمًا مقرونًا بالعمل الصالح، فأولئك يمحو الله عنهم سيئاتهم ويجعل مكانها حسنات، وذلك بسبب توبتهم وندمهم. وكان الله غفورًا لمن تاب، رحيمًا بعباده حيث دعاهم إلى التوبة بعد مبارزته بأكبر المعاصي، ومن تاب عمَّا ارتكب من الذنوب، وعمل عملا صالحا فإنه بذلك يرجع إلى الله رجوعًا صحيحًا، فيقبل الله توبته ويكفر ذنوبه.
اللهم إنا نسألك التوبة النصوح، لا معصية بعدها ولا فسادا.
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا إلى يوم الدين .
عبد الرحمان سورسي