آراء ودراساتمع قهوة الصباح

نظراتٌ في الدعاءِ الناصِري….في الافتقار إلى الله (7)

محمد التهامي الحراق

دعما للأفق الروحاني في لحظات الابتلاء، واستحضارا لطاقة الدعاء عند الشدائد والضراء؛ كما تؤصل له المرجعية الإيمانية الجامعة بين البذل والتوكل، بين الأخذ بالأسباب وملازمة الدعاء؛ ننشر ها هنا نظرات في متن الدعاء الناصري (نسبة إلى الصوفي الكبير محمد بناصر الدرعي دفين تمكروت عام 1085هـ). ويعد هذا الدعاءُ واحدا من أشهر الأراجيز التوسلية التي اعتاد أهل المغرب استعمالها في باب التضرع عند الشدائد والمحن.
                                             *    *     *
 فبعد أن مهد الشيخ ابن ناصر في دعائه بمناجاة الحق سبحانه بوصفه معدنَ الرحمة والإغاثة وملجأَ المضطر عند نفاذ الحيلة وبوارها، ها هو هنا يستأنف الدعاء والتضرع والشكوى بصيغة تجمع بين الدعاء والمناجاة، وبإلحاح على مخاطبة الحق بما هو أهل له من تعظيم وإجلال وتقديس، بل وباستحضار مختلف الصفات الإلهية والأفضال الربانية التي تستوجبها أخلاقُ الدعاء الصادق والتضرع الخالص. يقول:
إليك يا غوث الفقير نستند    —
                            عليك يا كهفَ الضعيف نعتمد
وفي هذا إقرار بمظهرين من مظاهر التحقق بعبودية المتضرِّع، “الفقر” و”الضَّعف”، يقول تعالى: ” يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ”. و قد كان مولاي العربي الدرقاوي يقول في كلام إشاري بليغ: “ما عرفنا من النحو إلاّ إعرابَ قوله تعالى: ” إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ “. ومعلوم أن الفقرَ وصف ذاتي للعبد، يقول ابن عطاء الله السكندري: «إلهي أنا الفقير في غناي، فكيف لا أكون فقيرا في فقري».
أما المظهر الثاني لعبودية المتضرِّع في هذا البيت فهو “الضَّعف”، قال تعالى: “وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا”، ولهذا متى تحقق العبد بوصف الضَّعف حيال خالقه مده سبحانه بالحول والقوة، يقول ابن عطاء الله السكندري في “حِكَمه”: «تحقق بأوصافك يمدك بأوصافه، تحقق بذُلِّكَ يمدك بعزه، تحقق بعجزك يمدك بقدرته، تحقق بضعفك يمدك بحوله وقوته».
من هنا نعتُ الناظم للمتضرع بوصْفَي “الفقير” و”الضعيف”، إذ معلوم أن المنهج التربوي للشيخ محمد ابن ناصر الدرعي  منهج  شاذلي، و إلى المشرب الصوفي الشاذلي تنتمي سلالتُه الروحية، و نقرأ للإمام الشاذلي يقول: «لازم أوصافك وتعلق بأوصافه، وقل من بساط الفقر الحقيقي: يا غنيُّ من للفقير غيرُك؟ ومن بساط الضعف: يا قويّ من للضعيف غيرك».
يقول الناظم:
أنت الذي ندعو لكشف الغمرات   —
                             أنت الذي نرجو لدفع الحسرات
لن نقف هنا  أيضا عند بلاغة التوازي في هذا البيت بين شطريه كلمة كلمة، وهو التوازي نفسُه الذي نُسج ببلاغته البيتُ السابق:
  إليك يا غوث الفقير نستنِد   —
                                عليك يا كهف الضعيف تعتمِد
فقد أشرنا سالفا إلى أن هذه البلاغة تُحقق إيقاعا بهيا للمعنى والمبنى، وتُسهم في تغذيةِ روحانيةِ هذا الدعاء وعرفانية أفقه الدلالي، وحسبنا هنا الإلماعُ الخاطفُ إلى الوَقْع المناجاتي الخاص الذي يُحدثه في قلبِ المتضرِّع استعمالُ الضمير المنفصِل للخطاب: “أنتَ”،  و ما  يبعثه من معنى الإلحاح في الدعاء التكرارُ الإيقاعي لهذا الضمير في أبيات أربعة متوالية كما سنرى ذلك بحول الله، مع خِصِّيصَة مميزَةٍ للبيتينِ الأول و الرابع، وهي تكرارُ الضمير مرة في أولِ الصدر وثانيةً في أول العَجُز:
أنت الذي ندعو لكشف الغمرات  —
                              أنت الذي نرجو لدفع الحسرات
فضلا عن وصلِ هذا الضمير في هذا البيت باسم الموصول: “الذي”، مما يتيح التوسع في توصيفِ أفضال المخاطَب باعتباره كاشفَ الغمرات ودافعَ الحسرات بلا نظير أو مثيل؛ لذلك كان سبحانَه عينَ العناية بالعبد الذي لا يَرتجي حمايةً من غير بابها. يقول الناظم:
أنت العنايةُ التي لا نرتجي     —
                                     حمايةً من غير بابها تجي
فمن محض العناية الربانية كان الإيجاد والإمداد، لذلك لا تُرتجَى حمايةٌ من غيرها، ولا  يُتَوكَّلُ على غير مولاها، و لا يقف الواقفون عند غير بابها.
توكلنــــا مــــولانا ونحن أذلـــــة    —
                          لتكشف بلوانا لقـــدْ مسنــا الضرُّ
فها نحن في باب الكريم التزامُنا    —
                        ومن بابك المفتوح يشملنا الخير

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

4 × 3 =

زر الذهاب إلى الأعلى
MCG24

مجانى
عرض